سؤال الهوية في أزمة التمثيل الوزاري
أحمد عسيلي
شهدنا خلال الفترة الماضية تشكيل مجلسين مهمين في الحياة السورية، الأول مجلس الإفتاء الأعلى الذي ضم 15 عضوًا برئاسة الشيخ أسامة الرفاعي، والثاني مجلس الوزراء الذي ضم 23 وزيرًا، مع احتفاظ الشرع بمنصب رئيس المجلس وفق الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية، وعلى الرغم من قلة الاهتمام الإعلامي الذي رافق تأسيس مجلس الإفتاء مقارنة بمجلس الوزراء، فإن تشكيلة الأول لا تقل أهمية وخطورة أبدًا عن الثاني، نظرًا إلى مكانة الفتوى في مجتمع مسلم كالمجتمع السوري، وأيضًا للبراغماتية العالية الي رافقت تأسيسه، بداية من رئاسته التي كانت الشائعات تذهب لمنحها لعبد الرحيم عطون، أكثر شرعيي “هيئة تحرير الشام” مكانة، وأيضًا للعلاقة المتوترة التي ربطت “المجلس الإسلامي السوري” بـ”هيئة تحرير الشام”، والتي وصلت إلى مرحلة فتوى صدرت عن المجلس بوجوب الخروج عن “الهيئة”.
إذًا، يمكن اعتبار أن هذا التشكيل كان انتصارًا للإسلام المعتدل الذي يمثله الرفاعي-النابلسي على حساب الإسلام الجهادي الذي يمثله عطون-عيروط، مع التركيز هنا على فكرة أنه لا أهمية للمناطقية أو العشائرية أو العائلية في هذا التشكيل، بل الولاء للمنهج إلى حد كبير.
أما بالنسبة لمجلس الوزراء، فقد ضم 23 وزيرًا، مع مراعاة تمثيل الأقليات الدينية والعرقية، والحرص على وجود العنصر النسائي، وغياب تمثيل التيارات السياسية، كالائتلاف الوطني السابق، أو منصة موسكو والقاهرة، أو بقية الأحزاب الموجودة في الساحة السورية، والتي يبدو أنها ستشكل صوت المعارضة، خاصة بعد إعلان “تحالف تماسك”، وقد بررت السلطة هذا الغياب، أو حتى التمثيل البسيط للأقليات الذي وصفه البعض بالديكور، بأن العبرة في الكفاءة فقط، وأن السلطة لا ترغب في المحاصصة الطائفية أو القومية وإنما تعتمد مبدأ المشاركة.
أسئلة التمثيل هذه، لا تُطرح بنفس الحدة في بلدان العالم المتحضر، فتمثيل منطقة البيكاردي أو النورماندي سؤال بلا معنى في الحياة السياسية الفرنسية، أيضًا لا وزارة محددة للكاثوليك أو البروتستانت أو اليهود، وإن كان هذا السؤال لا يزال يحتفظ بوجوده على مستوى الرئاسة، فلم تدخل أي امرأة قصر الإليزيه أو البيت الأبيض رغم وجود هذا المنصب في البلدين منذ عدة عقود، ولا نأمل وصول رئيس مسلم لفرنسا في المستقبل القريب، حتى لو كان من أصول فرنسية تامة، ناهيك بشخص من أصول مغاربية أو إفريقية، هنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم أود نقاشه في هذه المادة:
ما الرابط بين الشخص وممثله في الدولة؟
لماذا يحرص السوري على تمثيل أقوى لأفراد من طائفته أو شخص يشبهه في المظهر الخارجي؟ لماذا وجود امرأة غير محجبة يرضي بعض النساء أو العلمانيين؟ ما شكل هذا الخيط غير المرئي الذي يربطهم بتلك المرأة؟ لنطرح السؤال بشكل مختصر وواضح أكثر: ما العلاقة بين الشكل الظاهري أو الانتماء العرقي للوزير أو الرئيس وبين من يمثلهم؟ لماذا وجود شخص علوي في السلطة أرضى الكثير من العلويين رغم كل الضرر الذي ألحقه بالطائفة حتى قبل هروبه، ولماذا تسلُّم هذا المنصب من سني أرضى الكثير من السنة؟
سؤال الانتماء أو الرابطة هذه، شغل العديد من علماء النفس منذ سنوات طويلة، فقد ناقشه عالم النفس الأمريكي وليم جيمس في مؤلفات عديدة، تحدث جيمس عن الذات المتعددة كالذات الجسدية والاجتماعية، وقال إن الهوية هي نتاج التفاعل بين الوعي والتجربة الذاتية، فالهوية شيء متغير يمكن له أن يأخذ أبعادًا متعددة، المرأة مثلًا ممكن أن تكون إسلامية أو نسوية أو سنية أو متعصبة لقصيدة النثر، فهوية الإنسان وتعريفه لوجوده مرتبطة بخبرته الذاتية وطريقة عيشه لهذه الخبرة، هذا السؤال وصل بالدراسة والتحليل والفهم لدرجة الغوص لأعماق اللاوعي، عند أستاذنا جون ديفيد نازيو، فقد اكتشف نازيو من خلال خبراته السريرية في التحليل النفسي، أن خيال الإنسان عن الامتلاك وصورة الذات لا تشمل الجسد فقط، أو ما يمثله لنا بعدنا الفيزيائي، بل يتمدد بشكل أوسع بكثير، ليصبح الشريك، بل وأحيانًا العائلة وكل ما نملك، وكأنه جزء من وجودنا الفيزيائي. ففي دراسته لظاهرة العضو المبتور (العضو الشبحي) اكتشف أن ألم البتر هذا، يشبه بمظاهره لحد كبير فقدان الشريك، فالإحساس بوجود الشريك في أرجاء البيت وسماع صوته أحيانًا، يشبه لحد بعيد استمرار الإحساس بهذا العضو الشبحي، لأن الشريك يتحول في أعماقنا إلى جزء من الجسد، هذا الإحساس يمتد إلى كل ما نملكه كالسيارة الفارهة أو “الموبايل” الحديث، الذي يتحول إلى جزء من الذات، لنتذكر قصة هذا الإنسان الذي باع كليته ليشتري هاتفًا حديثًا، إحساسه تجاه “الموبايل” سيتحول إلى إحساس تملك عضو جديد، أو تلك النكتة (وكثيرًا ما تكون النكات كاشفة للنفس) عن شاب يحمل في جيبه هاتفًا بأحدث إصدار، وحين جلس سمع صوت طقطقة، فقال “إن شالله تكون فقرات ضهري”.
هذا الإحساس بالوجود والتوسع النفسي، سيتمدد ليشمل العائلة، ويمتد أفقيًا بشكل أوسع، ليشمل أبناء الطائفة، حينها يصبحون خياليًا جزءًا من الوجود الفيزيائي، كأي عضو في جسدنا. اكتشافات نازيو في التحليل النفسي، ذكرتني بحديث نبوي يقول: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، لا أعتقد أن نازيو قرأ هذا الحديث، لكنه حتمًا كان سيدهش من هذا التطابق، فكل انتماء قوي يصبح جزءًا من هوية، ليغدو خياليًا جزءًا من الجسد.
لذلك تمثيل وزير من طائفة ما، سيعتبره جميع أبناء الطائفة كأنه تمثيل لهم في خيالهم، لأنه امتدادهم الذاتي، هذا الامتداد قابل للتغير، إضعافًا أو تقوية، فبداية العمل على أساسه وفق النموذج اللبناني سيكون تعزيزًا له، لكن أيضًا عدم تمثيل مجموعة ما سيؤثر على انتماء هذه المجموعة للبلد باعتبار أن “امتدادها الفيزيائي” غير موجود في إدارة البلد، وفي الحالتين معضلة حقيقية، هذه الفكرة موجودة في المجلس الإسلامي وعند شرعيي الهيئة، لكن العنصر الأقوى هنا هو النهج (أشعري، سلفي، صوفي)، وموجودة حتى داخل التيارات الدينية في بعض المجتمعات التي تلعب القبيلة فيها رابطة أقوى مثل “طالبان”.
تبقى إعادة لم شمل البلد وتغيير الهوية من خلال إضعاف الهوية الطائفية والقومية على حساب هوية وطنية جامعة هي الهدف الأسمى، لكنه عمل لن يكون سهلًا في مجتمع عمل فيه النظام البائد لأكثر من 50 عامًا تقطيعًا وتقسيمًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :