في استرخاص دم السوريين
غزوان قرنفل
أثارت مشاهد الفيديو الذي تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي، والذي يظهر فيه أحد أبرز رموز مجزرة التضامن وهو يتسلم ويستقبل معتقلين من طائفته يفترض أنهم متهمون بارتكاب جرائم أو انتهاكات بحق بقية السوريين، السؤال، كيف لمجرم حرب جرائمه موثقة بالصوت والصورة أن يكون راعيًا لسلم أهلي متوهَّم.
هذه المشاهد تضعنا جميعًا بمواجهة سؤال عما إذا كان ملف العدالة الانتقالية قد نُحّي جانبًا ولم يعد ضمن أجندة عمل السلطات السورية الجديدة، وهذا ما أعتقده تمامًا وأكاد حتى أن أجزم به رغم تصريح وزير العدل بخلاف ذلك.
السلطات الجديدة ودون أي مواربة بالكلام، من الواضح حقًا أنها لا تعبأ بمسألة العدالة الانتقالية، وإن كانت ألمحت إليها أو صرحت عن عزمها الاشتغال عليها في تصريح من تصريحاتها لأسباب عديدة، تأتي في مقدمتها سعيها المحموم لترسيخ قوائم سلطتها ومحاولة إكسابها الشرعية الوطنية والاعتراف الدولي بأي ثمن، وهي تعتقد أن خطوة من هذا النوع قد تفسر على أنه توجه منها لاستهداف مكوّن بعينه، خصوصًا بعد الأحداث الدموية في الساحل مؤخرًا، فوجدت في مصطلح السلم الأهلي أولوية، وربما بديلًا عن العدالة الانتقالية، كما أنها ربما تخشى من توسع مروحة المساءلة لتشمل بعضًا من أعضائها أو مسؤوليها أو من مناصريها ممن ارتكبوا أيضًا جرائم وانتهاكات كثيرة خلال سنوات الصراع.
لا يمكن ضمان السلم الأهلي الذي يبحث الجميع عنه ما لم تكن قاطرة العدالة هي في مقدمة قطار التوجه للمستقبل، كما لا يجوز ولا يحق للسلطات الجديدة أن تدفع فاتورة السلم الأهلي من حساب الضحايا الذين قتلوا بدم بارد وسحقوا طوال سنوات في أقبية التعذيب، ولا يمكن إهدار كل القهر الذي عاناه ذوو الضحايا وأولئك الذين لم يعرفوا بعد مصير أبنائهم، إنه حقًا عبث بالسلم الأهلي لا ضمان له.
العدالة الانتقالية ليست ترفًا فكريًا أو حقوقيًا على الإطلاق، بل هي حاجة قانونية وأخلاقية، وضرورة مجتمعية نحتاج إليها جميعًا لنكرس في مجتمعاتنا ثقافة المساءلة كبديل عن ثقافة الإفلات من العقاب، وهي أحد أهم الأسس التي نحتاج إليها كسوريين للتأسيس لدولة القانون التي تجعلنا مواطنين تحت خيمة الحماية القانونية من تغول السلطة، أي سلطة، وافتراسها للمجتمع وحقوق الناس واستباحة حيواتهم، كما كان يحصل طوال نصف قرن مضى.
ندرك حقًا، ونؤمن تمامًا أن العدالة الانتقالية هي جسر عبور المجتمع السوري من ضفة الاحتراب والتنازع إلى ضفة السلامة الوطنية، فالجريمة المتمادية التي ارتكبت بحق السوريين طوال عقد ونصف لا تزال آثارها بادية أمامنا، ولا تزال الأيادي التي ارتكبتها تقطر دمًا دافئًا من أجساد ضحايانا، وهذا المشهد المريع لا يجبره مجرد كلام عن تسامح وتغاضٍ ونسيان الماضي، بل لا يجبر انكساره سوى عدالة ومساءلة وقصاص من كبار مرتكبي الجرائم والانتهاكات، من أي ملة أو مكوّن كانوا، على الأقل على الجرائم التي خلفت جرحًا غائرًا في وجدان المجتمع، حينئذ يمكن انطلاق مركب المصالحة الوطنية لترميم النسيج الاجتماعي والوطني، لأننا نعتقد أن العدالة إذ تحفظ الحقوق وتجبر الضرر، فكذلك المصالحة الوطنية تحفظ المجتمعات وترمم التصدعات فيها.
نحن نريد عدالة انتقالية لأننا معنيون بترسيخ ثقافة وسنن المساءلة كبديل موضوعي عن ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما يعزز مبدأ سيادة القانون وسموه، الأمر الذي يشيع إحساسًا بالأمان المجتمعي، ويرسل رسالة بأن الحقوق المستباحة قد ولى وطوي زمانها.
إن ما تفعله السلطة الحالية بهذا الشأن لا يؤشر إلى اهتمامها بحقوق الضحايا، ولا إلى اهتمامها بإطلاق برنامج وطني للعدالة الانتقالية التي هي أوسع مدخلًا للسلم الأهلي، واستعاضت بدلًا عن ذلك بمجرم حرب طليق ليصنع لها سلمًا أهليًا متخيَّلًا، ولو على حساب أولئك المدفونين بمقابر جماعية أو أولئك الذين أحرقت جثثهم في حفرة التضامن بعد قتلهم غيلة، أو أولئك الذين فقدوا بشريتهم وعقولهم في غياهب السجون وعتمة الزنازين، أو إلى أولئك الذين طمرت جثثهم في غرف الملح بصيدنايا، وما بعدها نماذج للموت وتفاصيل كثيرة عن استباحتنا، فمن يجب أن يؤدي ثمن كل تلك المواجع إلا عتاة المجرمين كهذا المسخ الذي يقيم في فنادق ومنتجعات النجوم الخمس ويذهب محملًا بكل ما يستطيع حمله من وقاحة ليزور حي التضامن، وربما مشى الخيلاء فوق ذات الحفرة التي دفن فيها ضحاياه.
يا سادة القرار، لا ترخصوا دماء الضحايا ومواجعهم، فذلك بلاء عظيم، لأنه ينتهك قيمة العدالة والله عادل لو تعلمون، وهو القائل: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”، حيث جعل الله تعالى من القصاص مدخلًا لصناعة الحياة والتواؤم والسلم الأهلي والمجتمعي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :