إنكار وتبرير الجريمة يعزز الشرخ في المجتمع السوري

  • 2025/04/06
  • 1:44 م
انتشر عناصر الأمن العام في قرية حرف بنمرة بريف بانياس بعد حادثة مقتل ستة مدنيين - 1 نيسان 2025 (محافظة طرطوس)

انتشر عناصر الأمن العام في قرية حرف بنمرة بريف بانياس بعد حادثة مقتل ستة مدنيين - 1 نيسان 2025 (محافظة طرطوس)

عنب بلدي – حسن إبراهيم

صبيحة أول أيام عيد الفطر، هزت الشارع السوري حادثة مقتل ستة مدنيين معظمهم من كبار السن، وبينهم طفل (12 عامًا) في قرية حرف بنمرة بريف محافظة طرطوس، تبعها إعلان إدارة الأمن العام إلقاء القبض على الجناة والتوعد بمحاسبتهم.

الحادثة وما سبقها من أحداث دامية وانتهاكات شهدها الساحل السوري، مطلع آذار الماضي، ترافقت باعترافات حكومية بوجود تجاوزات مع وعود بالمحاسبة، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، ولجنة لتعزيز السلم الأهلي، مع دعوات من وجهاء وناشطين وحقوقيين لوقف نزيف الدم والبدء بمسار المحاسبة وتحقيق العدالة.

بالتزامن مع الانتهاكات والوعود بمحاسبة المجرمين والمتورطين، يصر كثيرون على الإنكار أو التشكيك بوقوع الجرائم أو تبريرها، مع استرجاع انتهاكات مارسها النظام السابق وقواته وأجهزته الأمنية، في حالة تعمق الشرخ بين مكونات المجتمع ولا تمهد لعدالة انتقالية في سوريا.

انتشار خطاب التشكيك والتكذيب والإنكار للجرائم والانتهاكات، اعتبره ناشطون أشد قسوة من الجريمة نفسها، ويهيئ مناخًا لجرائم لاحقة، ويعيد للذاكرة سياسة النظام السوري وروايته الإعلامية حول المجازر التي كانت ترتكبها قواته، مع فارق أن الحكومة الحالية أقرّت بارتكاب عناصر لتلك الانتهاكات وتوعّدت بمحاسبتهم.

وذهب حقوقيون إلى أن إنكار الجريمة وتبريرها لا يعد وجهة نظر أو رأيًا، إنما هو فعل لا أخلاقي ولا إنساني فيه طمس للحقيقة واصطفاف مع الظلم ومشاركة بالجريمة، مع دعوات للوقوف والتضامن مع الضحايا “كل الضحايا” بغض النظر عن العرق والدين والمذهب.

بانتظار المحاسبة

حالة الإنكار والتبرير للجرائم بدت جلية بعد انتهاكات حصلت في الساحل السوري خلال الفترة الممتدة من 6 إلى 10 من آذار الماضي، إذ كانت إحدى أسوأ موجات العنف التي شهدتها البلاد منذ سقوط نظام بشار الأسد، في 8 من كانون الأول 2024، وأسفرت عن مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون، بدأت شرارتها بكمين من مسلحين موالين للنظام المخلوع في الساحل السوري أو من تصفهم الحكومة السورية بـ”فلول النظام”، استهدف عناصر الأمن في الحكومة.

عضو لجنة السلم الأهلي، الدكتور أنس عيروط، قال خلال تعزية ذوي الضحايا في قرية حرف بنمرة، إن الجناة شخصان تمت إحالتهما إلى القضاء، وبانتظار نتائج التحقيق، معتبرًا أن هذه الحوادث تهدم مساعي السلم الأهلي.

أدان عيروط عملية القتل، واعتبر أنها لا تتوافق مع الدين والأخلاق والتربية، وأن الكل مسؤول ومتساوٍ أمام القانون، وأن السلم الأهلي لا يعني التجاوز عن المجرم والقاتل أو مسامحته وتجاوز العدالة.

وفي 3 من نيسان الحالي، قالت منظمة العفو الدولية، إن الحكومة السورية يجب أن تضمن محاسبة مرتكبي موجة عمليات القتل الجماعي التي استهدفت المدنيين العلويين في المناطق الساحلية، وأن تتخذ خطوات فورية لضمان عدم استهداف أي شخص أو جماعة على أساس طائفتها.

واعتبرت المنظمة أن لجنة تقصي الحقائق خطوة إيجابية نحو كشف ملابسات الانتهاكات وتحديد هوية الجناة المشتبه بهم، وذكرت أنه يجب على السلطات ضمان امتلاك اللجنة للتفويض والسلطة والخبرة والموارد اللازمة للتحقيق الفعال في عمليات القتل هذه.

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أغنيس كالامار، “دون العدالة، فإن سوريا تواجه خطر الوقوع مرة أخرى في دوامة من الفظائع وإراقة الدماء”.

ما وراء التبرير والإنكار؟

الناشط المدني عبد الرحمن طالب، يرى ثلاثة أسباب تدفع أشخاصًا لتبرير الجريمة وإنكارها في سوريا، أولها الخوف من فرض العقوبات الدولية أو استمرارها، معتبرين أن الحديث عن وقوع جرائم بوابة لهذه العقوبات.

والسبب الثاني هو بدافع التشفي وتقليد ممارسات شبيحة النظام السابق، من باب “نحن مورست علينا الاعتداءات لذلك نمارسها”، والثالث من مبدأ التطرف واعتبار أن الاعتداء على طائفة أخرى ومحاربتها “جائز”.

وقال عبد الرحمن طالب لعنب بلدي، إن الأشخاص الذين يسترجعون مظلوميات وانتهاكات ومجازر كانت تحصل على يد قوات النظام السوري السابق، يعتبرون أنه نوع من تحقيق العدالة أو بديل عنها من وجهة نظرهم، وأن ما يحصل اليوم من انتهاكات جزء مما عاشوه من قبل، وهو تصوّر خاطئ.

واعتبر الناشط أن عدم الاعتراف بالجريمة والتبرير لها لن يكسر دائرة العنف في سوريا، ويدفع نحو استمرار المزيد من الانتهاكات.

إنكار أولًا

تعد وسائل التواصل الاجتماعي ساحة تعكس حالة التبرير والإنكار للانتهاكات في سوريا، فمع تزايد استخدام المنصات وتسارع الأحداث وتناقل الأخبار اليومية بعد سقوط النظام السوري، انتشرت الكثير من الأخبار والفيديوهات المضللة التي تسببت في انتشار الفوضى والفلتان الأمني، كما استغلت فلول نظام الأسد السابق التضليل الإعلامي كسلاح لنشر الفتنة، وخلخلة الوضع الأمني.

مدير منصة “تأكد”، أحمد بريمو، يرى أسبابًا كثيرة تدفع الجمهور لإنكار وتبرير الجريمة، إذ تبدأ الحالة بالإنكار، خاصة حين يكون مصدر الخبر شهادات من أشخاص قد يكونون غير معروفين أو بأسماء مستعارة لأسباب أمنية حرصًا على المصادر في أرض الواقع، إضافة إلى وجود التضليل الإعلامي المستمر في سوريا والمواكب للقضايا الراهنة.

وفي وقت لاحق، حين تنتشر الأدلة والإثباتات والصور والشهادات من ذوي الضحايا أو أشخاص نجوا من الجرائم المرتكبة، توجد نسبة من الذين أنكروا الجرائم أقرت بوقوع هذه الجرائم “وإن كان على مضض”، وفق بريمو، معتبرًا أن وجود إقرار مهم بالحد الأدنى لرد اعتبار ذوي الضحايا لحين تحقيق العدالة.

وأضاف بريمو لعنب بلدي أنه من المؤسف إنكار الجرائم حتى من أشخاص محسوبين على فئة الناشطين في المجتمع المدني والمثقفين، معتقدين أن التبريرات تسهم بصد مؤامرة ما على الوطن والثورة، ومنع ثورة مضادة وما إلى ذلك، لافتًا إلى وجود رفض وإدانة للجرائم، ومواقف حازمة ودعوات لدولة قانون لا دولة انتقام.

ويرى بريمو أن من أسباب الإنكار والتبرير وجود نوع من “النقمة” واعتقاد البعض (فئة قليلة) بأن الأشخاص الذين كانوا موجودين في مناطق سيطرة النظام قبل 8 من كانون الأول 2024 “شبيحة”، وعليهم أن يذوقوا جزءًا مما عاشه وعاناه الشعب السوري، وهو تصوّر خاطئ.

 

حتى لا نسمح بأن يتحول العهد الجديد في سوريا إلى نسخة مشابهة للنسخة السابقة من النظام المجرم، يجب أن نسهم جميعنا برفض هذه الجرائم، وندعو ونصر ونؤكد على أهمية محاسبة المجرمين وإقصائهم من المشهد سواء السياسي أو العسكري ومن كافة مؤسسات الدولة السورية.

أحمد بريمو

مدير منصة “تأكد”

بعد سقوط النظام السوري، كشفت تحقيقات عن “حملات مشبوهة” عمدت إلى مهاجمة الإدارة السورية الجديدة، من مجموعة حسابات وصفحات داعمة لنظام الأسد، وعن شبكة صفحات مشبوهة أُنشئت بشكل متزامن، تدعم الحكم الذاتي والعنف الطائفي عبر الترويج لمشاريع تقسيم سوريا وإثارة الفتنة.

لفت بريمو إلى تضاعف الانفلات على وسائل التواصل والفضاء الافتراضي مما هو عليه الحال في الواقع، مؤكدًا ضرورة أن تكون هناك ضوابط ومحاسبة لكل من يحرض، واستدعاء لمن ينشر معلومات كاذبة تحض على العنف، والتعامل معها بصرامة، مع ضمان حق المواطن بالتعبير عن رأيه دون قيود.

تهديد لمسار العدالة

يؤثر استمرار الانتهاكات على مسار المحاسبة والعدالة الانتقالية، التي لا تزال منتظرة في سوريا بعد نحو أربعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، كما يثير تأخرها المخاوف بشأن أثر ذلك على السوريين، خاصة الضحايا ممن تضرروا في عهد النظام ويبحثون عن عدالة تخفف من حجم معاناتهم وترد إليهم جزءًا من حقوقهم.

وتأتي أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا من كونها البديل المتوازن عن عمليتين “شديدتي الخطورة”، هما طي الماضي كليًا، وتجاهل إرث الانتهاكات، وهو شيء مستحيل عمليًا لأن آثار الانتهاكات مستمرة وحاضرة، والثانية هي التوجه نحو الانتقام الفردي أو الجماعي الذي قد يؤدي لإسقاط فكرة الدولة والغوص في دوامة الفوضى والعنف، وفق ما يراه الحقوقي والباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله.

الخبير القانوني والمتخصص في مجال حقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، اعتبر أن تبرير القتل وإنكار الجرائم في سوريا يشكلان تهديدًا خطيرًا لمسار العدالة والمحاسبة، إذ يسهمان في تطبيع العنف وتعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، مما يؤدي إلى تفاقم مشاعر الظلم ويفتح الباب أمام دورات جديدة من الانتقام وعدم الاستقرار.

وقال الكيلاني لعنب بلدي، إن إنكار الجرائم لا يقتصر على حماية الجناة، بل يعوق توثيق الحقيقة، ويشوّه الذاكرة الجماعية، ويضعف ثقة الضحايا والمجتمع في أي عملية قضائية أو سياسية تهدف إلى بناء سلام مستدام.

 

استمرار ظاهرة إنكار الجرائم في سوريا يعوق جهود تحقيق العدالة، ويجعل من المستحيل تأسيس دولة قائمة على سيادة القانون، مما يهدد أي إمكانية لتحقيق الاستقرار الفعلي.

المعتصم الكيلاني

خبير قانوني

 

لمواجهة هذه التحديات، يرى الكيلاني أنه لا بد من تشكيل هيئة عدالة انتقالية، يكون على رأس أولوياتها تعزيز التوثيق المستقل للجرائم، من خلال إنشاء لجان لكشف الحقيقة، وإعداد تقارير قانونية محايدة تستند إلى أدلة موثوقة وشهادات موثقة لا يمكن إنكارها.

كما يجب العمل على توعية المجتمع بخطورة التبرير والإنكار عبر الإعلام والتعليم والمجتمع المدني، إلى جانب تحديد المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تمهيدًا لمساءلتهم قانونيًا، سواء عبر المحاكم الوطنية أو الدولية، وفق الكيلاني.

وأضاف المحامي السوري أن الإصلاح المؤسساتي يشكل ركيزة أساسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، من خلال بناء مؤسسات قضائية وأمنية تعمل وفق معايير العدالة والنزاهة، إذ لا يمكن تحقيق سلام حقيقي دون التصدي لمحاولات طمس الحقيقة، لأن أي مصالحة تقوم على الإنكار والتضليل ليست سوى هدنة هشة سرعان ما تنهار أمام حقائق لم يُعترف بها ولم يُحاسب مرتكبوها.

ويرى مدير منصة “تأكد”، أحمد بريمو، أن دعم الدولة السورية هو الخيار الوحيد لانتشال سوريا من أي فوضى قد تحدث لاحقًا على خلفية هذه الجرائم، معتبرًا أن الدولة السورية صريحة من مسؤولين سياسيين وعسكريين قالوا إن هذه الجرائم لن تمر دون محاسبة، وجرى تشكيل اللجان، وهذا دليل على إقرار الدولة بوجود جرائم، واهتمام بألا تتحول الجرائم إلى نمط يوسم به العهد الجديد في سوريا، وهذا ما يأمله الشعب السوري، ويسعى إلى تحقيقه.

ويأمل بريمو أن يتم التعامل مع ملف العدالة الانتقالية بالسرعة المطلوبة لأجل تخفيف الاحتقان لدى شريحة واسعة من السوريين، وضرورة وضع قوانين صارمة لمحاربة خطاب الكراهية والتحريض الذي بات سائدًا اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي.

مقالات متعلقة

  1. الانتهاكات في مناطق سيطرة "الوطني".. شارع غاضب ومحاسبة ضعيفة
  2. جلسة بمجلس الأمن من أجل المساءلة بشأن جرائم الحرب في سوريا
  3. العدالة الانتقالية.. خطوات لنزع الفتيل
  4. "الداخلية" تلقي القبض على أحد عناصر سهيل الحسن

مجتمع

المزيد من مجتمع