
لجأ كثير من السوريين إلى العمل على البسطات للتكيف مع الحالة الاقتصادية - 28 كانون الأول 2024 (رويترز)
لجأ كثير من السوريين إلى العمل على البسطات للتكيف مع الحالة الاقتصادية - 28 كانون الأول 2024 (رويترز)
عنب بلدي – عمر علاء الدين
أوصلت الانقسامات السياسية والعقوبات والتدخلات الخارجية، والسياسات الاقتصادية الاجتماعية التي انتهجها نظام الأسد، المجتمع السوري إلى حالة التشظي والتفكك الحاد، ما ينذر بمستقبل مجهول على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي.
“علينا أن نعيد بناء بلدنا، صحيح أن هناك صعوبات، لكن لا شيء مستحيل”، هذا ما قاله الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في 10 من شباط الماضي، وأضاف، “ورثنا دولة مدمرة تمامًا بسبب النظام السابق. لكن هذا هو التحدي الذي يجب أن نواجهه كسوريين”.
فإلى أي مدى يرخي هذا التحدي بظلاله على المجتمع السوري، الهش أساسًا، بفعل أزمة وصفتها مساعدة أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، جويس مسويا، بـ”أزمة إنسانية هائلة” تؤثر على أكثر من 70% من السكان.
توقف عدد من المشاريع الاقتصادية، وانتشار البطالة في سوريا، إضافة إلى الصعوبات المعيشية التي أفرزتها السياسات المحلية والعقوبات الغربية، والحرب المستمرة منذ 14 عامًا من جهة أخرى، تثقل كاهل حكومة دمشق المؤقتة، كما أنها تشي بسيناريوهات غير متوقعة بانتظار السوريين.
الخبير المصرفي والاقتصادي عامر شهدا، حذر من انهيار الدولة السورية في حال استمرار الركود التضخمي الذي يحيط بالوضع الاقتصادي في سوريا، وأشار إلى أن أرقام الأمم المتحدة الواردة في تقريرها الأخير حول الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا غير صحيحة، متهمًا إياها بدفع البلاد نحو فخ صندوق النقد الدولي.
بينما رجح أستاذ علم الاجتماع في جامعة “دمشق” والباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” طلال مصطفى، استمرار سيناريو الأزمة المعيشية على المدى القريب كحد أدنى في ظل عدم وجود تغير جذري في السياسات الاقتصادية.
معاون وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة دمشق المؤقتة، إبراهيم الإبراهيم، قال لعنب بلدي، إن الوزارة تسعى بالتعاون مع الشركاء الإنسانيين إلى التخفيف من آثار توقف بعض المشاريع الاقتصادية، على الرغم من عدم القدرة حاليًا على سد الفجوة الكبيرة الناتجة عن تقلص فرص العمل.
كما تعمل وزارة الشؤون الاجتماعية على تطوير مراكز التنمية الريفية، بهدف تدريب العائلات على مهن تساعدها في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتولي اهتمامًا خاصًا بالمشاريع الصغيرة والمستدامة التي تمكّن العائلات من الاعتماد على نفسها اقتصاديًا، بحسب الإبراهيم.
وأشار معاون وزير الشؤون الاجتماعية إلى أن العمل يجري لتعزيز عودة الأهالي المهجرين إلى قراهم بالتعاون مع عدد من المنظمات الإنسانية، بهدف تقليل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن توقف الدعم في بعض المناطق.
ووفقًا للإبراهيم، فالسعي مستمر لتأمين فرص للعاطلين عن العمل من خلال التعاون مع مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع الخاص والمشترك، إلى جانب تقديم برامج تدريب مهني تغطي مختلف الاختصاصات لتأهيل الأفراد لسوق العمل.
وعن توزيع المساعدات الإنسانية في البلاد حاليًا، خصوصًا أن 90% من السوريين تحت خط الفقر، أكد معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا، أن الوزارة نشرت فرقًا للإحصاء، تقوم بتقييم أوضاع الأسر السورية من حيث الحالة المادية والاحتياجات الأساسية، مع إعطاء أولوية لذوي الإعاقة والفئات الأكثر ضعفًا، ثم يوجه الدعم بناء على البيانات المحدثة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها الفعليين بأفضل طريقة ممكنة.
بالنظر إلى الوضع الاقتصادي، توقع الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور طلال مصطفى، ثلاثة سيناريوهات حول مستقبل المجتمع السوري:
السيناريو الأول: استمرار الأزمة المعيشية والاقتصادية وتفاقمها في ظل غياب حلول سياسية في البلاد، وغياب انتقال سياسي ديمقراطي، وتفاقم الوضع المعيشي وارتفاع معدلات الهجرة والبطالة والتضخم، وضعف القدرة الشرائية، خاصة مع فصل عدد كبير من العاملين.
هذا السيناريو يعزز تفكك النسيج المجتمعي وزيادة اعتماد السوريين على المساعدات الإنسانية.
السيناريو الثاني: التكيف التدريجي مع الأزمة المعيشية، فبعض السوريين أظهروا تكيفًا مع الأزمة في السنوات الأخيرة، وعبر الاعتماد على الحوالات المالية من الخارج وزيادة الأعمال الصغيرة وخاصة في الأرياف، يمكن تأمين الحد الأدنى من المستلزمات الضرورية.
وهذا السيناريو يمكن أن يوجد حلولًا بديلة، إذا توسعت شبكة الاقتصاد المحلي بالاعتماد على مبادلات مالية محلية وتوظيف رؤوس أموال بسيطة يمكن أن تحل جزءًا من المشكلة.
السيناريو الثالث: هو التعافي الاقتصادي لكنه مشروط بإصلاحات اقتصادية حقيقية، وانفتاح اقتصادي ومشروط باندماج سياسي جزئي أو كلي، أي أنه إذا توصلت الأطراف السياسية في سوريا لتفاهمات سياسية، من الممكن أن يكون هناك تخفيف للعقوبات، وهذا ما شهدناه بالفترة الأخيرة.
هذا التعافي من الممكن أن يؤدي إلى انتعاش بعض القطاعات الاقتصادية، لكنه يتطلب إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة بناء الثقة بين الدولة الجديدة والمجتمع.
ويرى المصطفى أن المجتمع السوري رهينة التحولات السياسية المقبلة، مرجحًا السيناريو الأول (استمرار الأزمة المعيشية) على المدى القريب كحد أدنى. ومن الواضح، بحسب الباحث، انعدام مؤشرات التغير الجذري في السياسات التي من الممكن أن تفتح الباب أمام فرص جديدة.
يرى الخبير المصرفي عامر شهدا، أن سوريا تشهد اليوم فراغًا تنمويًا، وسط غياب المشاريع التنموية المدعومة من الدولة، الناجم عن عدم الدعم المالي لحكومة دمشق المؤقتة.
وأكد الخبير، لعنب بلدي، عدم إمكانية حل مشكلة الفراغ التنموي، دون رفع الدعم المالي للحكومة ودون وجود مصارف وسياسة نقدية ومالية.
ولو أن الحكومة السورية تمتلك الدعم المالي، لطرحت سياسة اقتصادية عامة، وبالتالي سياسة قطاعية بحسب رؤية الحكومة لكل قطاع على حدة ونموه، بحسب شهدا.
وتابع الخبير الاقتصادي، “للأسف، إلى تاريخه لم يطرح أحد رؤية اقتصادية أو استراتيجية عامة بالنسبة للاقتصاد السوري”، والتأخير بهذا الأمر، بحسب شهدا، قد يزيد عمق المشكلات التي تعاني منها البلاد فعلًا ويرفع تكاليف حلها، ولا يستطيع أي اقتصادي حاليًا تحديد مصير الاقتصاد على المدى البعيد أو القريب.
بالنسبة للآثار قصيرة وبعيدة المدى لزيادة البطالة وانعدام القوة الشرائية على الاقتصاد السوري، يرى شهدا أن هذه الظواهر ستؤدي إلى كوارث اجتماعية “لا يُحمد عقباها”، حيث ستنتشر الجريمة والسرقة والقتل، ويتوجه المجتمع باتجاهات لا أخلاقية، بالإضافة إلى انتشار المخدرات وآفات اجتماعية أخرى.
ووفقًا للخبير الاقتصادي، فإن انعدام القوة الشرائية سيؤدي إلى تراجع الإنتاج المحلي إلى أن يتوقف، وبالتالي زيادة أخرى في البطالة، تعقبها هجرة رأس المال إلى الخارج، وتراجع للاستثمارات المحلية والأجنبية، كما قد يؤدي إلى تراجع التصدير بشكل نهائي.
وهذه الأمور مجتمعة، بحسب شهدا، ستؤدي حتمًا إلى إضعاف الإمكانات المادية للدولة، ما قد يعني انهيارها، وهذا الأمر خطر جدًا على المدى القصير، ونحن نسير في هذا الاتجاه ولسنا خارجه، كما قال الخبير.
تؤثر البطالة وقلة المشاريع التنموية في حالة الاستقرار الاجتماعي، كما يؤكد أستاذ علم الاجتماع في دمشق طلال مصطفى، إذ تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر وزيادة التفاوت الطبقي، الذي وصفه المصطفى بـ”التفاوت الحاد” بين 10% تمثل طبقة صغيرة مستفيدة من الوضع الاقتصادي الحالي، و90% يعانون الفقر.
وتابع المصطفى أن الضائقة الاقتصادية الحالية أدت إلى ارتفاع معدلات الجريمة بشكل كبير، ويُلاحظ أن هناك جرائم أغلبها سرقة وخطف واحتيال.
وتحتل سوريا المرتبة الأولى عربيًا في مستوى الجريمة، وفق مؤشر قياس الجريمة في قاعدة بيانات “Numbeo”.
وتتعدى الآثار الاجتماعية للضائقة الاقتصادية، بحسب الدكتور طلال المصطفى، إلى خيارات صعبة كعمالة الأطفال والتسول، وبطبيعة الحال فإن هذه الأمور مجتمعة ستؤدي حتمًا إلى انعدام الاستقرار الأمني، الذي سيضفي نوعًا من “انعدام الأفق والأمل بالمستقبل والإحباط واليأس” وصولًا إلى انتشار الاضطرابات النفسية في المجتمع وخاصة الاكتئاب.
وتطرق الباحث الاجتماعي إلى مشكلات اجتماعية أخرى ناجمة عن الضائقة الاقتصادية، وتؤثر فعلًا في المجتمع، على رأسها التفكك الأسري، أي ارتفاع معدلات الطلاق وانخفاض معدلات الزواج.
ويرى المصطفى أن الحكومة الجديدة لم تثبت بعد وجودها اقتصاديًا، وينبغي لها السعي لإيجاد صناديق خارجية وداخلية لدعم العملية الاقتصادية وإعادة الإعمار.
في 20 من شباط الماضي، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرًا، قدّر فيه أن سوريا بحاجة إلى أكثر من 50 عامًا على الأقل، لاستعادة المستويات الاقتصادية للبلاد في مرحلة ما قبل الحرب في حال حققت نموًا قويًا.
وبحسب التقرير، فإن معدل الفقر ارتفع من 33% قبل الحرب إلى 90% حاليًا، بينما بلغت نسبة الفقر المدقع 66%.
وشكك الخبير الاقتصادي عامر شهدا بنسبة الفقر المدقع بأنها 66%، فالشعب السوري يعاني الفقر المدقع بنسبة 90% بالاستناد إلى مقاييس برنامج الغذاء العالمي.
وتساءل شهدا: هل يمكن للأمم المتحدة أن تطرح المؤشرات الاقتصادية التي اعتمدت عليها في تقريرها الذي قررت فيه أن سوريا ستستعيد اقتصادها عام 2080؟
وأوضح الخبير الاقتصادي، أنه لا مؤشرات اقتصادية صحيحة في سوريا، وهذه الأرقام التي طرحها برنامج الأمم المتحدة هي مؤشر لدفع سوريا للوقوع بأحضان صندوق النقد الدولي، مضيفًا، “يحاولون قتل روح المبادرة في سوريا، ويحاولون قتل روح السوريين ببناء بلدهم”.
وطالب الخبير برنامج الأمم المتحدة بإعلان المؤشرات الاقتصادية الحقيقية التي اعتمد عليها التقرير الصادر، وعدد السكان السوريين الحقيقي في الداخل والخارج، الذي استندوا إليه في تحديد نسبة العاطلين عن العمل ونسبة الفقر.
التقرير الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، قال إن 9 من كل 10 أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وإن واحدًا من كل أربعة عاطل عن العمل.
ولفت إلى أن 75% من السكان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، تشمل الرعاية الصحية والتعليم والوظائف والأمن الغذائي والمياه والطاقة والمأوى.
وأشار إلى أن إنتاج الطاقة في البلاد انخفض بنسبة 80%، وتضررت 70% من محطات توليد الكهرباء، ما أدى إلى انخفاض قدرة الشبكة الوطنية بنسبة 75%.
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أشار إلى أن ما بين 40 و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عامًا لا يذهبون إلى المدرسة، وأنه دُمر أو تضرر بشكل شديد نحو ثلث الوحدات السكنية خلال سنوات النزاع، ما ترك 5.7 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى دعم في مجال الإيواء.
وحذر التقرير الأممي من استمرار حالة النمو البطيء التي تعيشها سوريا (1.3 سنويًا) في الوقت الحالي، مؤكدًا أن حصول ذلك سيجعل من المدة اللازمة لتعافي الاقتصاد تمتد أكثر من نصف قرن.
في العام الذي سبق اندلاع الحرب، بحسب التوصيف الأممي، كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا 62 مليار دولار، وكان لديها معدل نمو يتجاوز 5% على مدار الخمس سنوات السابقة، أما حاليًا، فيبلغ الناتج المحلي الإجمالي أقل من نصف ذلك.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى