طاعون الاستبداد

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

يمكن القول ابتداء إن الاستبداد هو حالة معاكسة لحركة الزمن وتطورات الحياة. هو تمامًا حالة على الضد من المستقبل، وعلى الضد من أي محاولات للاشتغال على صناعة المستقبل، لأن ذلك ببساطة يعني أن أولئك المشتغلين على التغيير هم بالضرورة يحاولون هدم صرح الاستبداد الذي يقف عائقًا في طريق الحياة والمستقبل.

الاستبداد لا يدمر الكرامة الإنسانية فحسب، ولا يصادر الحرية فحسب، الاستبداد بكل معنى الكلمة يحيون البشر والمجتمعات، ويحيل تلك الأخيرة إلى مجرد قطعان، مستلبة الإرادة ومسلوبة الكرامة، وهما الشرطان الضروريان لوجود الاستبداد وديمومته، لذلك يعمد المستبدون دائمًا وأبدًا لكسر إرادة الناس وسلبهم كراماتهم بمختلف الوسائل والأدوات حتى يتمكنوا من البقاء والاستمرار.

لا تصدقوا أبدًا أن يمنحكم المستبد قسطًا من حقوقكم أو حرياتكم، أو يتيح لكراماتكم فرصة أن تينع من جديد، لأن كل ذلك هي أدوات القوة التي تتمكنون بها من تفكيك بنيان الاستبداد وهزيمة المستبد.

والاستبداد المديد يتحول إلى طاعون يعشش في كل شيء، في الزوايا والطرقات والمدارس وحتى الغابات وفي عقول الناس وأفكارهم وفي تعليمهم والكتب التي يقرؤونها، يتحول الطغيان إلى هواء يتنفسه الناس ويألفونه لأنه يعيش بينهم ويصبح جزءًا من سلوك معتاد ومألوف لديهم، يتطبعون بطباعه شيئًا فشيئًا، فيتحول المجتمع إلى مجرد مستنقع للفساد والاستئثار والفقر وانهيار البنى الصحية والتعليمية وانتشار الدعارة وغياب القانون وفساد القضاء، وهذه كلها عوامل لبدء تحلل المجتمعات وانهيارها بشكل كامل.

سوريا كانت حقًا على عتبات المراحل الأخيرة من هذه الحال لولا أن قدّر الله أقداره ومكّن السوريين من إسقاط عصابة الطغيان، التي وفرت كل السبل وهيأت كل الظروف المناسبة لاستيلاد هذا الطاعون وانتشاره.

اليوم نحن على عتبات شيء مغاير تمامًا، نحن على سكة إعادة بناء منظومة الحكم والإدارة في جمهوريتنا الجديدة، وهي بالتأكيد مهمة شاقة وعسيرة، لكننا لا نملك خيارًا إلا أن نفعل، فالعمل على تطهير البلاد من هذا الطاعون يوجب علينا ابتداء تجفيف المستنقع الذي تستنبت فيه كل رذائل الاستبداد، وهو ما يوجب بالضرورة العمل على تفكيك أدوات السلطة وإعادة بنائها بعد وضع الشروط والآليات التي لا تتيح لها فرصة التغول مجددًا، ومنع تركز السلطة وأدواتها بيد شخص أو فئة أو مجموعة، بل توزيعها بتوازن دقيق على مختلف مؤسسات الحكم، بما لا يتيح لواحدة منها الاستئثار بالنفوذ وبسط هيمنتها على أخرى.

والحقيقة أننا كنا نعتقد أن هذا أهم ما يجب أن يحصل خلال المرحلة الانتقالية التي تشبه كثيرًا حالة انتقال المريض من غرفة العمليات إلى غرفة العناية المركزة والتي تتضمن مراقبة المؤشرات الحيوية للمريض وعما إذا كانت لديه استجابة لآلية العلاج المتبع. لكن مع الأسف هذا لم يحصل، بل على العكس اتخذت ضرورات المرحلة الانتقالية سببًا وذريعة لاجتراح آليات تزيد من تركز السلطة بيد شخص واحد، ومسخ دور بقية السلطات إلى درجة تجعل منها ديكورًا مشوهًا وسيئ التنفيذ، ولزوم ما لا يلزم!

ولم يكن غريبًا بطبيعة الحال ذلك الهجوم غير المبرر من سواد المجتمع على كل من رفع صوته أو شرع قلمه بانتقاد الإعلان الدستوري، الذي كان أبلج تعبير عن جموح لا يحده حد نحو بناء منظومة سلطوية تسعى لبناء نمط للحكم وإدارة السلطات بشكل يوحي أنها لن تغادر السلطة أبدًا، ولن تسمح حتى بالمشاركة فيها، فالمجتمعات المعطوبة بالاستبداد المديد ليس من السهل عليها الخروج من كهف الطغيان لأنها ألفت العتمة والجهل بما يحصل خارجه من تطورات، الأمر الذي يشبه حالة الديناصورات التي لم تستطع أن تتكيف وتتواءم مع شروط الطبيعة المتغيرة ما أدى إلى انقراضها.

وفي حين أنك تعتقد أنك تسعى لحماية حقوق هؤلاء وتحاول أن تحجب عنهم أي فرصة أو مسعى لإعادة إنتاج الشروط التي حولت حياتهم جحيمًا، تجدهم يصلبونك ويجلدونك ويخونونك لأنهم يظنون أنك تعبث بمكاسبهم المتخيلة لمجرد أنهم تخلصوا من منظومة سلطوية قاتلة، دون أن ينتبهوا أن ما يحصل الآن هو تكرار لإعادة تصنيع نفس المنتج ولكن بغلاف مختلف.

لسنا واهمين أن التحول الديمقراطي الذي نأمله ونشتغل عليه لن يتحقق في اليوم التالي لسقوط نظام برع في تدمير الحياة بكل معانيها وتجلياتها، وأن هذا التحول حتى يحصل يستلزم زمنًا وجهدًا خارقًا، ليس فقط على مستوى منظومات ومؤسسات السلطة البديلة وإنما أيضًا على مستوى مختلف الشرائح والبنى المجتمعية السورية، لمعالجة العطب النفسي الذي نعانيه جميعًا بمستويات مختلفة، وتصحيح التشوه المعرفي والثقافي في المجتمع بما يجعل هذه البنى مؤهلة حقًا للتأسيس لمستقبل مغاير في مفاهيمه وشروط عيشه عما عاشوه سابقًا، لكن الأهم دائمًا أن تكون هناك نقطة بداية لفعل ذلك، فالبدايات الصحيحة ستقودنا دائمًا لخلاصات ونهايات صحيحة بالضرورة.

لكن مع كل أسف مرة أخرى أقول إن بدايتنا اليوم ليست صحيحة على الإطلاق، ولا تؤشر حقيقة إلى أي ملمح يوحي ببدء رحلة التعافي من طاعون الاستبداد أو على الأقل بالاستعداد لفعل ذلك، وأعتقد جازمًا، إن لم نصحح منذ الآن مسار تلك البداية، أن نهاياتها وخلاصاتها ستكون، لا قدر الله، أسوأ كثيرًا مما عشناه.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة