دور السلطات السورية الجديدة في ملاحقة مجرمي الحرب في أوروبا
منصور العمري
في الأيام السابقة انتشر خبر التعرف صدفة على ضابط في الجيش السوري مشاركًا في مظاهرات بهولندا، ثم القبض عليه هناك، وتبين لاحقًا أن المشارك في المظاهرة ليس بهاء حسن ولم يقبض عليه، وأن بهاء حسن بالصدفة موجود أيضًا في هولندا، والسلطات بدأت التحقيق معه، وقالت إن صورته مع جثمان شخص في مستشفى على ما يبدو، غير كافية لاتهامه بارتكاب جرم.
تثير هذه الحالة من تراكم لحوادث عرضية وصدف بحتة وفرص ضائعة، تساؤلات مهمة حول آليات العدالة الحالية ومعاناة الضحايا الذين ينتظرون العدالة منذ وقت طويل، فهل يعقل أن نترك مصير العدالة رهن الصدفة؟ وهل يمكن أن نعتمد على الأقدار في محاسبة مرتكبي الجرائم؟
قضية بهاء حسن تؤكد لنا وتذكرنا بأنه يمكن فعل المزيد لتحقيق العدالة لجزء من السوريين بعد سنوات من الانتظار المؤلم.
تحقيق العدالة ليس مجرد واجب أخلاقي وقانوني على الدولة السورية، بل هو ضرورة لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا والمنطقة. يجب أن نتحرك الآن، قبل أن يفلت مزيد من مجرمي الحرب من العقاب. عدد كبير من مجرمي الحرب المشتبه بهم الموجودون في أوروبا، واستنادًا إلى معلومات سابقة، يساهمون في التجسس والاعتداء على السوريين ويرتكبون أفعال غير قانونية في دول اللجوء، وقد يشكلون شبكات لتمويل جرائم الحرب والتشجيع عليها في سوريا.
لسنوات طويلة، قاد المجتمع المدني السوري والمنظمات الدولية جهودًا كبيرة ومضنية لملاحقة مجرمي الحرب السوريين المشتبه بهم في أوروبا، سعيًا لتقديمهم إلى العدالة، وتطلب هذا العمل الشاق تجاوز دور النظام السوري السابق، الذي كان أصل آلة الإجرام في سوريا وهدفًا للمساءلة.
اليوم، ومع سقوط نظام الأسد، يقع على عاتق السلطات السورية الجديدة واجب تاريخي ومسؤولية قانونية محلية ودولية في تتبع وملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب السوريين، سواء في أوروبا أو في أي مكان آخر. تحقيق العدالة للضحايا ومكافحة الإفلات من العقاب هما ركيزتان أساسيتان لبناء سوريا المستقبل. كما أن تعاون السلطات السورية في ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية يشكل مساهمة في الجهود الدولية ضد الإفلات من العقاب، ويُظهر التزامها بالقانون الدولي والمعاهدات الدولية بما فيها، مثلًا، اتفاقية مناهضة التعذيب التي تستلزم من سوريا كدولة طرف، بحسب المادة 9 (1) من الاتفاقية:
على كل دولة طرف أن تقدم للدول أكبر قدر من المساعدة فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية المتخذة بشأن أي من الجرائم المشار اليها في المادة 4، بما في ذلك توفير جميع الأدلة الموجودة في حوزتها واللازمة للإجراءات.
كيف يمكن للسلطات السورية الجديدة تسهيل عمل الشرطة والقضاء في أوروبا؟
يمكن تقديم الأدلة والمعلومات وتحديد هوية المشتبه بهم وتتبعهم. تمتلك السلطات السورية الجديدة أرشيفًا ضخمًا تفصيليًا وشاملًا من المعلومات والأدلة حول الجرائم المرتكبة والمرتكبين، ويمكنها مشاركتها مع الجهات القضائية الأوروبية حسب الاقتضاء. يمكنها أيضًا تسهيل الوصول إلى الشهود وتقديم الدعم اللازم لهم للإدلاء بشهاداتهم في المحاكم الأوروبية.
يمكن أيضًا إعداد قائمة بالمشتبه بارتكابهم جرائم دولية في سوريا المحتمل وجودهم في أوروبا، ومشاركتها مع الدول الأوروبية، وتلقي طلبات من هذه الدول للتحقق من هويات ومناصب وتفاصيل أشخاص مشتبه بهم في أوروبا.
يُفعّل هذا التعاون التبادل الأمني والاستخباراتي، وتحديد هوية المشتبه بهم وتتبعهم في أوروبا، مما يسهل عملية القبض عليهم وتسليمهم إلى العدالة.
كما يُظهر تعاون السلطات السورية الجديدة مع المحاكم الأوروبية احترام السلطات السورية للقانون الدولي ورغبتها في تحقيق العدالة للشعب السوري، ومنع الإفلات من العقاب. يصب هذا التعاون أيضًا في مصلحة دول أوروبا التي لا تريد أن تتحول إلى ملجأ آمن لمجرمي الحرب، ويستوجب مراجعة أداء سفارات سوريا وموظفيها، وتفعيل دورها الجوهري في هذا التعاون.
يمكن إنشاء آليات مشتركة لتبادل المعلومات والأدلة بين الحكومة السورية والجهات القضائية الأوروبية، ويجب ضمان حماية الشهود في سوريا وأوروبا لضمان سلامتهم وتشجيعهم على الإدلاء بشهاداتهم.
أيضًا، من المفيد جدًا تعاون السلطات السورية مع منظمات حقوق الإنسان السورية والدولية والاستفادة من خبرتها طويلة في هذا المجال، ودعم عملها بمختلف الأشكال، بما فيه بتزويدها بالمعلومات عن المشتبه بهم.
من بين المنظمات السورية التي لعبت دورًا كبيرًا في محاكمة مجرمي الحرب في أوروبا وتوثيق هذه المحاكمات ومراقبتها، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والأرشيف السوري، والمركز السوري للعدالة والمساءلة، والشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمدافعون عن الحقوق المدنية، ومنظمة عمل الطوارئ السورية.
ومن بين المنظمات الدولية التي دعمت محاكمة مجرمي الحرب السوريين في أوروبا إما بشكل مباشر أو بتقديم المعلومات والتقارير، المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسانية، ومبادرة العدالة للمجتمع المنفتح، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، وتريال انترناشيونال.
البث المباشر للمحاكمات في أوروبا على التلفزيون السوري الرسمي
في هذه الأثناء، هناك خطوات سريعة يمكن اتخاذها لمعالجة المحاكمات الحالية والمستقبلية المتعلقة بسوريا في أوروبا. من المرجح أن تستمر هذه المحاكمات على الأقل حتى يستقر الوضع في سوريا ويتضح أن لديها نظامًا قضائيًا يحترم القانون الدولي ومعايير المحاكمة العادلة، قبل أن يتم تسليم المشتبه بهم في أوروبا إلى سوريا لمحاكمتهم. مع ذلك، يمكن اتخاذ تدابير فورية لضمان مشاركة السوريين الذين لا يزالون في سوريا وإشراكهم في هذه المحاكمات، لا سيما من خلال ضمان بث هذه المحاكمات مباشرة عبر التلفزيون السوري.
توفر هذه المحاكمات في أوروبا فرصة فريدة للسوريين للاطلاع على التجارب الدولية ومعايير المحاكمات العادلة، والاستفادة منها وتسريع تطوير النظام القضائي السوري. كما يمكن أن تكون المحاكمات الجنائية أداة قوية لعلاج المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية.
يمكن للبث المباشر أن يكون بمثابة أداة تثقيفية فعالة، حيث يتيح للجمهور، بالإضافة إلى المحامين والقضاة السوريين، الاطلاع على النظام القانوني العادل وحقوق المتهمين. كما يمكن أن تصبح المحاكمات نموذجًا يحتذى به أو محفزًا للإصلاحات داخل النظام القضائي السوري. يمكن أن توفر هذه المحاكمات أيضًا رؤى قيّمة حول المعايير الدولية للعدالة، والإجراءات العادلة، وملاحقة الجرائم الخطيرة. ومن خلال دراسة هذه المحاكمات، يمكن للمهنيين القانونيين السوريين أن يتعلموا مناهج وتقنيات جديدة يمكن تكييفها مع نظامهم القضائي.
ينبغي توقيع مذكرة تفاهم أو اتفاق بين السلطات الحاكمة في سوريا والدول الأخرى التي تُجري محاكمات ذات صلة بسوريا، تتضمن بثًا مباشرًا لجميع جلسات المحاكمات على التلفزيون الرسمي السوري مع ترجمة فورية إلى اللغة العربية من قبل المحكمة نفسها.
منصور العمري: مدافع سوري عن حقوق الإنسان، وباحث قانوني، حاصل على ماجستير قانون في العدالة الانتقالية والنزاع. يعمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. في عام 2012، اعتقلت الحكومة السورية العمري وعذبته لمدة 356 يومًا بسبب توثيقه فظائعها، في أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :