حذام زهور عدي
كانت لعبة التوازن هي الطريقة المثلى في سياسة الأسد الأب الداخلية والخارجية، وكان يُتقن تلك اللعبة ويُمارسها بين ذوي النفوذ المؤثرين على سلطته، وبالرغم مما يظهر عليه كصاحب سلطة مطلقة، إلا أن سلطته تلك كان يراعي فيها بمهارة التوازنات في اللجنة العسكرية (وهي القائد الفعلي للقوة التي كان يعتمد عليها في حكمه) والتوازنات الأمنية، فيوزع قيادة الألوية والفرق ورئاسة الأجهزة الأمنية على عناصر ذات انتماءات مختلفة، قبلية وعشائرية غالبًا من ضمن الطائفة التي جعلها الحامل الاجتماعي له، وأحيانًا من الطوائف الأخرى، الريفية بخاصة، التي يضمن ولاءها، وعندما كان يشعر أن من يثق به قد بدأ ريشه ينبت ويكبر سرعان ما يلجأ إلى ملفه ليقنع زملاءه بضرورة إزاحته واضعًا مكانه أحدًا آخر من الانتماء ذاته، وهكذا جعلته تلك السياسة يمسك شيئًا فشيئًا بخيوط مراكز القوة الداخلية كلها ويتحول إلى الحاكم الفرد المهاب ممن يُحيط به جميعًا، وفي السياسة الخارجية حدد الدول ذات المصالح في سوريا والتي لعبت تاريخيًا دورًا بالانقلابات العسكرية المتتابعة قبله،فأعطى لكلٍ حصته، وأرضى كلًا من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، فهما القطبان الكبيران المتحكمان بالشرق الأوسط، وفق حساباته، ولم ينس النفوذ الإسرائيلي الذي ناوشه مرة عن طريق حزب الله وصمت عنه سنوات حكمه الباقية إلى أن يحقق التوازن الاستراتيجي بنوع الأسلحة، ويرد على اختراقه الدائم للأجواء السورية بالوقت المناسب، كما كان يُشيع، أما الدول الأوروبية فكانت خيوط التفاهم ممدودة معهم جميعًا، بعد أن ضمن نفوذًا في لبنان ومشاركة بالحرب الأمريكية لتحرير الكويت، مزيحًا عن كاهله منافسة صدام حسين.
وفي الوضع الإقليمي، حرص على التوازن بين إيران والكتلة الخليجية العربية، وجلب دعمًا اقتصاديًا من كليهما، وكان عندما يشعر أن إحدى الكفتين مالت على الأخرى بشكل ملحوظ سرعان ما يعيدها إلى وضع التوازن، وقد ساعدته الظروف الإقليمية والدولية للاحتفاظ بهذه التوازنات التي كانت أحيانًا شكلية. ومن غير المهم إن كانت تلك السياسة مبدئية أم ذرائعية، أو كانت من تميزه الشخصي أو ممن كان ينصحه بها، المهم أنه صاحب السلطة والمسؤول عنها.
مع موت الأسد الأب ومجيء الوريث الابن، اختلفت الظروف العالمية والإقليمية اختلافًا واضحًا، فكانت أحداث 11 أيلول الصادمة، وتولي بوش الابن الرئيس الأمريكي المغامر الحكم، الذي غزا العراق بتحالف دولي واسع،كما أكمل النظام الرأسمالي دورته تاركًا الأزمات الاقتصادية تعصف بأوروبا وتهدد أمريكا، وتسلم بوتين عمليًا السلطة الروسية محاولًا النهوض بروسيا بعد السقوط الذي عانت منه عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، وانزاح الإيرانيون المعتدلون عن السلطة وتسلط الملالي تسلطًا مطلقًا، وهم أصحاب تصدير الثورة والتمدد الطائفي الشوفيني، والذين حركوا ذراعهم اللبناني لفتح جبهة إسرائيل من جهة وللسيطرة على لبنان والساحل الشرقي من المتوسط من جهة أخرى، ثم جاء إعلانهم المقصود عن برنامجهم النووي ليكون أهم ورقة مساومة مع الغرب وإسرائيل من خلفه، وورطوا الأسد الابن بقتل رفيق الحريري. تلك الظروف المستجدة كلها لم تستطع القيادة السورية برئاسة الابن التأقلم معها وتركت كفة الميزان تميل كل الميل لصالح المصالح الإيرانية فاضطرب الحال وفقد النظام الجديد أهم ركن من أركان دعمه، كيف لا وهو لا يقوم على دعم شعبه له بل يستمر، كما كان حال أبيه، من خلال التوازنات الخارجية والقمع الداخلي.
انفجر الربيع العربي، وأصابت شظاياه سوريا، وكان فوران الشعب السوري حتميًا فقد بلغ طوفان الفساد والطائفية والقمع مبلغًا لا يُحتمل، واختلت التوازنات اختلالًا مرعبًا، وأضاءت الشموع التونسية والمصرية الطريق للشعب السوري، وأعلنت الثورة السورية عن نفسها بأنها ثورة الكرامة والحرية ومرت سنوات خمس ومازالت تقدم الشهداء والمآسي لتحقيق أهدافها، ووقفت التوازنات العالمية موقف اللاعب الأوحد والأكبر في استمرارها، تدير المأساة حينًا وتتجاهلها حينًا آخر والحل يروح ويجيء بينها متأرجحًا بين طمع هذا وذاك.
هكذا ظل نزيف الدم السوري مستمرًا لا ينتظر اتفاق الصين وإيران وروسيا وأمريكا وأوروبا وبالطبع إسرائيل والدول الإقليمية الأخرى على الكعكة السورية فقط، وإنما ينتظر اتفاقهم جميعًا ومن خلال الكعكة السورية التي جاوزت الأرقام القياسية لأنواع الكعك كله، على البترول والغاز والنووي وتوزيع الأسلحة المتقدمة عالميًا واقتسام أوكرانيا والقوس الصاروخي المحيط بروسيا، وربما تقاسم النفوذ في أفريقيا وقد يطرحون مشكلات الأزمات الاقتصادية العالمية و… و… يغلفون كل ذلك بالحرب على الإرهاب.
هل سينتظر الشعب السوري بلورة النظام العالمي الجديد ليصل إلى تحقيق أهداف ثورته التي لن يحقق له منها إلا اليسير؟ أم سيقلب الطاولة علىهم جميعًا ويبادر بوحدته وتصميمه إلى انتزاع قضيته منهم وفرض حريته وكرامته؟ ذلك ما يأمله الشهداء من مفاوضيهم وهو وحده المعادل الحقيقي لضخامة الآلام ونزيف الدماء المستمرَّين، وللثورة السورية العالمية الرائعة.