عنب بلدي – نوران السمان
مع استمرار الجهود للكشف عن مصير المفقودين في سوريا، تتواصل عمليات انتشال رفات لجثث مجهولة الهوية من مواقع الدفن الجماعية في عدة مناطق.
ورفع الإعلان الأخير عن العثور على أكثر من 20 رفاتًا في قبو مبنى سكني بريف دمشق العدد الإجمالي للرفات المنتَشل منذ كانون الأول 2024 إلى أكثر من 100، وفقًا لتقرير صادر عن “الدفاع المدني السوري” في 25 من شباط الماضي، ما أثار تساؤلات حول مصير الرفات المنتَشل، وآليات التعرف عليه، بالإضافة إلى مواقع الدفن والبروتوكولات المتبعة في التعامل معها.
ما إجراءات انتشال الرفات؟
أوضح مدير مديرية الطب الشرعي في سوريا، ياسر القاسم، في حديث لعنب بلدي، أن عمليات انتشال الرفات تتم بإشراف فريق متخصص يضم اختصاصيي طب الأسنان الشرعي والطب البشري الشرعي وخبراء الأنثروبولوجيا، إضافة إلى فرق الحفر وخبراء التصوير والمحققين الجنائيين.
وقال القاسم، إن الجثث تُدفن في مواقع مخصصة مع اتخاذ تدابير تضمن إمكانية الوصول إليها مستقبلًا في حال التعرف على هوية أصحابها.
وأضاف أنه وفقًا للبروتوكول المعتمد، تُتخذ خطوات دقيقة في التعامل مع المقابر الجماعية، بدءًا من الحصول على الموافقات الرسمية، وتحديد موقع الدفن، مع “تحريزه” لمنع غير المخولين من الاقتراب والتصوير.
كما يتم تحديد عمق الدفن التقريبي للجثث لتحديد مسافة الحفر الآمنة، حيث تُزال التربة على مراحل، وصولًا إلى الجثث التي تُكشف عنها بحذر باستخدام “فرشاة الدهان”، مع فحص التربة المحيطة بحثًا عن أي أدلة إضافية، وتُوثَّق جميع المراحل عبر التصوير لتوثيق الأدلة وضمان سلامة العملية، بحسب مدير مديرية الطب الشرعي.
توضع كل جثة في قبر مُرقّم يحمل إحداثيات دقيقة، مع تثبيت شاهدات خاصة تحمل أكوادًا تربطها بقاعدة بيانات الجثة الرقمية، والهدف الأساسي من ذلك هو الحفاظ على حقوق الضحايا وأسرهم.
ياسر القاسم
مدير مديرية الطب الشرعي في سوريا
وأشار إلى التعاون القائم بين مديرية الطب الشرعي والجهات القضائية لتحديد ظروف الوفاة وزمنها، محذرًا من مخاطر فتح المقابر بطريقة عشوائية، ما قد يؤدي إلى اختلاط الرفات ويعقّد عملية التعرف عليه.
ما آلية التعرف على الرفات وإبلاغ الأهالي
في حال الاشتباه بهوية أحد الرفات، ذكر مدير مديرية الطب الشرعي، ياسر القاسم، لعنب بلدي الخطوات المتبعة، وهي:
- الاشتباه بالهوية: من خلال البحث داخل قواعد البيانات الخاصة بالمفقودين عبر البرنامج السوري للاستعراف.
- مقارنة الملفات: تتم مقارنة بيانات الجثة، بما في ذلك السمات الجسدية والطبية، مع بيانات المفقودين المقدمة من أهاليهم (الصور، السمات الجسدية، العلامات الفارقة، الأسنان والتاريخ الطبي).
- التأكيد وإبلاغ الأهل: عند التطابق، يتم التواصل مع ذوي المفقود بطريقة تراعي حالتهم النفسية، مع عرض الأدلة مثل الصور أو التقارير الطبية، كما يتم عرض صورة الجثة على الأهل في حال عدم تفسخها بعد تعديلها على برنامج مخصص لتصبح قريبة لصورة شخص حي.
- الإجراءات القانونية: تُحرَّر شهادة مقارنة رسمية تُقدم للجهات القضائية، وتُسلم نسخة منها لذوي المفقود، ليتمكنوا من استكمال إجراءات تسلم الجثمان ودفنه من الطبابة الشرعية، وإصدار شهادة وفاة رسمية لتوثيق الحالة قانونيًا.
وأكد أن عملية تأكيد الهوية وإبلاغ الأهالي تحتاج الى تحقيق التوازن بين الدقة العلمية والاحترام الكامل لمشاعر الأهالي.
تحديات في مواقع الرفات
القاسم أوضح لعنب بلدي أن فرق الطب الشرعي في سوريا تعاني من نقص في الكوادر المؤهلة، ما دفع إلى التعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لتدريب الكوادر البشرية وتأهيلها للتعامل مع هذه الحالات.
وكانت “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” من أبرز المنظمات الدولية التي زارت دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، في 8 من كانون الأول 2024، والتقى وفد منها رئيس حكومة دمشق المؤقتة، محمد البشير.
رئيسة “اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، ميريانا سبولياريتش، أكدت في حديث سابق لعنب بلدي التزام “اللجنة” بدعم السوريين في جميع أنحاء البلاد، بالتعاون “الوثيق” مع “الهلال الأحمر العربي السوري”، والتزام “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” بدعم عائلات المفقودين في بحثهم عن إجابات.
ونوهت سبولياريتش إلى أهمية حماية مواقع الدفن، لضمان عدم العبث بالمواقع المحتملة، ولضمان أن تتم عمليات فتح المقابر وفق أعلى المعايير في الطب الشرعي.
وأشار مدير مديرية الطب الشرعي إلى وجود تنسيق مع منظمات دولية أخرى عن طريق مديرية التخطيط والتعاون الدولية لتجهيز الكوادر البشرية وزيادة عدد المتطوعين لتدريبهم، ليتم التعامل مع هذه المقابر الكثيرة ليصار إلى الاستعراف عليها وتسليمها لأهلها.
الخبير الجنائي المحلّف، الدكتور محمد كحيل، العامل في دائرة الطب الشرعي بمدينة اعزاز بريف حلب، قال لعنب بلدي، إن تحديد هوية الرفات يعتمد على فحص الملابس، والعلامات الفردية للجثث غير المتحللة بشكل كامل، وفي حالات التحلل الكامل، يتم أخذ عينة أو خزعة من العظام لحفظها وفحص الحمض النووي (DNA)، لافتًا إلى أن هذه التقنية غير متوفرة حاليًا في سوريا.
وأضاف أن آلية العمل المتبعة حاليًا في سوريا تقتصر على أخذ عينات من العظم أو عظام الجمجمة، ووضعها في محلول خاص لحفظها، تمهيدًا لمقارنتها مع عينات يقدمها ذوو الضحايا عند وجود شك أن الجثة تعود إلى أحد ذويهم.
العبث بالمقابر يهدد العدالة
تتزايد المخاوف من العبث غير المنظم بمواقع المقابر، ما يهدد بتدمير الأدلة الجنائية ويعقد عملية التعرف على الضحايا.
وبينما تعمل فرق “الدفاع المدني السوري” وفق إجراءات مدروسة لتوثيق الجثامين وضمان التعامل معها وفق المعايير الدولية، لا تزال هناك تحديات تتعلق بحماية هذه المواقع ومنع التدخلات غير الرسمية التي تؤدي إلى ضياع الأدلة.
العضو بمجلس إدارة “الدفاع المدني السوري”، عمار السلمو، حذّر من المخاطر الناجمة عن العبث غير المنظم بالمقابر الجماعية، مشيرًا إلى أن “الدفاع المدني” يعمل وفق إجراءات تم التدرب عليها من قبل منظمات دولية لتوثيق أي جثمان مجهول الهوية أو رفات أو بقايا بشرية.
وتشمل هذه الإجراءات:
- توثيق موقع الجثمان أو الرفات البشري.
- تسجيل أي دلائل مادية مثل الألبسة وبقايا الرصاص أو أي بقايا مقذوفات.
- توثيق حالة العظام، سواء كانت محطمة أو سليمة.
وذكر السلمو أنه بعد عملية التوثيق، يتم نقل الرفات إلى الطبابة الشرعية (مركز الاستعراف) لمتابعة الإجراءات اللازمة، وهو ما ذكره أيضًا الخبير الجنائي كحيل.
الحاجة إلى حماية المقابر الجماعية
طالب “الدفاع المدني” منذ اليوم الأول بعد سقوط النظام السابق بضرورة حماية المقابر الجماعية، مشيرًا إلى أن الإدارة الجديدة أخذت هذه القضية على محمل الجد، وفق العضو بمجلس إدارة “الدفاع المدني السوري”، عمار السلمو.
وأكد وجود استجابة من الحكومة لـ”الدفاع المدني” عند طلب حماية تلك المقابر، ومع ذلك، ورغم التعاون القائم، لا يوجد حتى الآن تعميم واضح وشامل لجميع المراكز الأمنية بضرورة حماية هذه المواقع وتجريم من يفتح المقابر الجماعية.
وتابع أنه “بشكل يومي هناك من يفتح المقابر الجماعية، ويستخرج رفاتًا بشريًا إلى سطح الأرض ويقوم بالتصوير، وهذا يدمر الأدلة أو أي فرصة للاستعراض في المستقبل”.
وبعد سقوط رئيس النظام السوري المخلوع، بشار الأسد، تهافت عدد من الناشطين السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام العربية إلى مواقع لمقابر جماعية معروفة في سوريا، وانتشرت من هناك تسجيلات مصورة تظهر نبش المقابر والعبث بالجثث المدفونة.
وبدت السلطات أو المنظمات الدولية والأممية أو المحلية شبه غائبة عن هذا الملف، إذ لم يُمنع دخول الإعلاميين أو الناشطين إلى مواقع المقابر الجماعية، ولا يزال الأهالي يصلون إلى الأماكن، دون أي جدوى من عملية البحث غير المنظمة والتي لا تستند إلى أي منهجية علمية أو طبية.
تشكل معالجة المقابر الجماعية بعد النزاعات المسلحة تحديًا قانونيًا وإنسانيًا يتطلب اتخاذ تدابير دقيقة ومبنية على أسس القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الجنائي الدولي.
“الشبكة السورية لحقوق الإنسان”
وأشار السلمو إلى أنه خلال الأسبوع الماضي فقط، تم فتح أكثر من مقبرة جماعية من قبل مدنيين، ما أدى إلى العبث بمحتوياتها.
وأضاف، “في إحدى المقابر، تم استخراج جثمان كامل بلباسه، وكان معصوب العينين، كما وُجد خاتم للضحية، لكن بعد وصول الدفاع المدني بساعات، لم نجد أيًا من هذه الأدلة، فقد اختفى الخاتم، لم نجد الجثة بشكل كامل وتفرقت العظام، ونُقلت الملابس إلى مكان آخر، تم العبث بهذا الرفات بعد استخراجه من قبل مدنيين”.
من جهته، يرى الخبير الجنائي الدكتور محمد كحيل، أن عملية نبش المقابر الجماعية بطريقة غير أكاديمية وغير تقنية، بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من الأشخاص في مواقع المقابر الجماعية، يعرقل عمليات البحث والتوثيق، ويؤثر على سير العمل.
كما أشار إلى أن العديد من العاملين في هذا المجال حاليًا يفتقرون إلى التخصص والخبرة الكافية، ما يؤدي إلى أخطاء في التوثيق وتحليل الأدلة.
وأوضح أن فتح هذه المقابر يجب أن يتم بطريقة أكاديمية وعلمية، وفق التعليمات المنصوص عليها في التعامل مع المقابر الجماعية.
وحذر من العواقب القانونية والحقوقية المترتبة على العبث العشوائي بالمقابر الجماعية، إذ إن عدم توثيق الأدلة وفق المعايير الدولية يفقدها قيمتها القانونية، ما قد يؤدي إلى ضياع حقوق الضحايا وذويهم، ويقلل من إمكانية استخدام هذه الأدلة في المحاكم الدولية المختصة بجرائم الحرب.
ووجه الخبير الجنائي من خلال عنب بلدي نداء إلى كل الأشخاص المعنيين بأن فتح أي مقبرة جماعية يجب أن يتم فقط بحضور فرق الطب الشرعي، وخبراء جنائيين مختصين، وخبراء في الأنثروبولوجيا الجنائية، لضمان التعامل مع الرفات وفق المعايير العلمية والقانونية اللازمة، بما يحفظ حقوق الضحايا وأسرهم، “وحتى نستطيع أن نشكل ملف دعوى جنائية أمام المحافل الدولية وأمام المحاكم المختصة، وتكون أدلتنا محققة”.
الحاجة إلى هيئة وطنية موحدة
يتعامل “الدفاع المدني” مع المقابر الجماعية وفق استراتيجية واضحة للعمل، بحسب السلمو، الذي شدد على أن هذه الجهود لن تكون كافية دون وجود هيئة وطنية شاملة تشمل وزارة العدل، ووزارة الداخلية، ووزارة الصحة، ومركز الطب الشرعي و”الدفاع المدني”، وأي جهة فاعلة، وخبراء دوليين ومنظمات دولية، بالإضافة إلى روابط للضحايا وعوائل الضحايا الذي هم جزء من العملية.
وأشار إلى أنه دون عمل موحد وطني سيؤدي إلى عرقلة أي تقدم في ملف المقابر الجماعية.
السلمو لفت إلى أن “الدفاع المدني” وجد نفسه مضطرًا للتعامل مع مقابر جماعية مكشوفة وغير محمية، خشية أن تتعرض للعبث والدمار نتيجة تركها بالعراء أو أن تؤثر على الصحة العامة.
يتعامل “الدفاع المدني” منذ اليوم الأول مع الجثامين المجهولة والبقايا البشرية الموجودة في الأماكن المفتوحة، ولا يزال مستمرًا في ذلك، نتيجة قيام بعض المدنيين بفتح المقابر الجماعية والعبث بها.
عمار السلمو
عضو بمجلس إدارة “الدفاع المدني السوري”
ما المواقع التي انتُشل منها الرفات؟
تقرير “الدفاع المدني” الأحدث، في 25 من شباط الماضي، ذكر أن عمليات انتشال الرفات التي نفذها “الدفاع المدني”، منذ بداية كانون الأول 2024 حتى 25 من شباط الماضي، شملت عدة مواقع في سوريا، هي:
ريف درعا الشمالي الشرقي: انتشال رفات شخصين مجهولي الهوية، في 23 من شباط، من داخل قطعة عسكرية تابعة للنظام السوري السابق (اللواء 34 دبابات) في قرية المسمية.
ريف حماة: انتشال رفات سبعة أشخاص من بئر في قرية الباني في ريف حماة الغربي، بعد بلاغ من أحد الأهالي.
ريف حمص: انتشال رفات بين 20 و25 شخصًا من موقع مكشوف في منطقة القبو بريف حمص الشمالي الغربي، في 30 من كانون الأول 2024.
في دمشق وريفها:
– انتشال رفات أكثر من 20 شخصًا مجهولي الهوية من قبو مبنى سكني في بلدة سبينة بريف دمشق، في 25 من شباط.
– انتشال رفات 24 شخصًا من موقعين في بلدة سبينة مجهولة الهوية غير مدفونة ومكشوفة وغير محمية، في 28 و29 كانون الثاني 2025، بعد إبلاغ السكان المحليين والناشطين.
– العثور على رفات شخصين على الأقل فوق سطح الأرض مكشوف ومعرض للاندثار (غير محميّ) من حي التضامن، في 7 من كانون الثاني الماضي، إثر بلاغ من السكان والناشطين.
– انتشال رفات 21 شخصًا في مدينة السيدة زينب بريف دمشق الجنوبي الشرقي، في 18 من كانون الأول 2024.
– العثور على رفات سبعة أشخاص، في 17 من كانون الأول 2024، ضمن قبر مفتوح تم العبث به قرب مدينة عدرا في ريف دمشق الشرقي.
– على طريق مطار دمشق الدولي في ريف دمشق الشرقي، انتُشلت 21 جثة منقولة مجهولة الهوية، في 16 من كانون الأول 2024.
وشدد “الدفاع المدني” على أنه لا يقوم بفتح أي مقابر جماعية أو استخراج رفات مدفون فيها، إذ يتطلب التعامل مع المقابر الجماعية تفويضًا قانونيًا وفرقًا متخصصة تضم تقنيين ومختبرات معتمدة لضمان التعامل العلمي مع الأدلة.
وأوضح أن المقابر الجماعية في سوريا تواجه مخاطر كبيرة جراء النبش العشوائي والتدخلات غير المهنية، التي تهدد “بشكل مباشر كرامة الضحايا وحقوقهم وحقوق عائلاتهم، وتهدد الجهود المستقبلية لتحقيق المساءلة والعدالة”.
كما أنها تؤدي إلى تدمير الأدلة وفقدان مسرح الجريمة ومعرفة المتورطين بالجرائم، ما يعرقل الجهود لضمان تحقيق العدالة.
وسبق أن دعا بيان لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، حكومة دمشق المؤقتة ووسائل الإعلام والمجتمع السوري إلى حماية المقابر الجماعية من العبث، نظرًا إلى أهميتها كأدلة رئيسة في التحقيقات القانونية والجنائية، بالإضافة إلى وجوب التعامل مع رفات الضحايا باحترام وكرامة، وضمان حظر التشويه أو الإساءة، امتثالًا لأحكام القانون الدولي.