لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟
أحمد عسيلي
تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.
فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟
من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:
منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!
هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.
فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟
موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).
من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.
آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.
الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.
فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :