خالد الجرعتلي |حسن إبراهيم | علي درويش
شهدت سوريا خلال الأيام الماضية إحدى أسوأ موجات العنف منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، بدأت شرارتها بكمين من مسلحين موالين للنظام المخلوع في الساحل السوري أو من تصفهم الحكومة السورية بـ”فلول النظام”، استهدف عناصر الأمن في حكومة دمشق المؤقتة.
تحولت الأحداث سريعًا إلى مواجهات عنيفة دامية، ارتُكبت خلالها انتهاكات طالت مدنيين من أبناء الساحل السوري، واتّسم معظمها بطابع انتقامي وطائفي، وتضمنت عمليات قتل خارج نطاق القانون، شملت إعدامات ميدانية وعمليات قتل جماعي ممنهجة بدوافع انتقامية وطائفية، وفق ما وثقته تقارير حقوقية.
التوترات التي أعقبت الأحداث، وما رافقها من شعارات وأبعاد طائفية، بدأت في 6 من آذار الحالي، وأدت إلى مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون، قوبلت بتنديد شعبي ورسمي محلي ودولي واسع.
وتزامنًا مع موجة العنف التي ضربت المنطقة، علت الأصوات السورية لنبذ النزعات الطائفية، وضرورة مكافحتها، والحفاظ على السلم الأهلي وعلى سوريا واحدة بجميع مكوناتها، وعدم جر البلاد نحو السمّ الطائفي، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف تداعيات الأحداث التي شهدها الساحل السوري، وسبل الوصول إلى حلول تخفف من وطأة النزعة الطائفية بين فئات من السوريين، ودور الحكومة فيها.
مبادرات وأصوات رافضة للطائفية
بالتزامن مع عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى سقوط نظام الأسد، وهروب بشار إلى روسيا، بدا التأكيد واضحًا على تجنب ومنع إثارة النعرات الطائفية في سوريا وتصاعد لاحقًا، وحملت المعركة رسائل منع الاستهداف على أساس عرقي أو مذهبي أو طائفي، وما تبعها من اجتماعات وخطابات وتشكيل لجان، فكان نبذ الطائفية والمحاصصة ومنع تطييف المجتمع ومراعاة التنوع حاضرًا على لسان المسؤولين، بدءًا من رأس الهرم، أحمد الشرع، رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية، وصولًا لمسؤولين في الحكومة.
وبالتزامن مع توترات الساحل السوري، قال الشرع، إن بعض الأطراف التي خسرت من الواقع الجديد في سوريا، تحاول أن تعيد نفسها إلى الساحة السياسية عبر إثارة النعرات الطائفية في سوريا، وإن احتمالات اندلاع حرب أهلية كانت كبيرة وقريبة.
موالون للأسد ودولة أجنبية متحالفة هم من أشعلوا فتيل الاشتباكات لإثارة الاضطرابات وخلق الفتنة الطائفية، لكي يصلوا إلى حالة من زعزعة الاستقرار والأمان في داخل سوريا.
أحمد الشرع
الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية
لجان لتدارك الموقف
أصدر الشرع قرارين بتشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي في سوريا، مؤلفة من المكلف بتسيير أعمال محافظة اللاذقية حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، ولجنة تقصي حقائق مكونة من خمسة قضاة وضابط ومحامٍ، للتحقيق بعد الأحداث الدامية في مدن الساحل غربي سوريا.
عضو لجنة السلم الأهلي، الدكتور أنس عيروط، قال لعنب بلدي، إن الهدف الأساسي من عمل اللجنة هو تقديم الدعم المعنوي من خلال توطيد الأمن بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفه وأديانه، وتقديم الدعم المادي من خلال الإغاثة لسد حاجة المحتاجين، وقد أشار إليهما باقتباس من القرآن الكريم: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
وأضاف أن أدوات السلم الأهلي كثيرة، ومن أهمها بث قنوات ومنصات التواصل الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع، وفتح باب الحوار من خلال عمل ندوات أو مجالس اجتماعية، وتكثيف اللقاءات، فهي بدورها كفيلة بقطع الألسن وتقريب وجهات النظر وإصلاح سوء التفاهم وإزالة الفجوة.
ومن أدوات السلم الأهلي، تشكيل مجلس إصلاحي من أهل العقل والرأي وتفعيله ليقوم بدوره في تحمل المسؤولية، ويكون صلة الوصل بين الأهالي والجهات الرسمية، وفق عيروط.
رجال دين ينظمون وقفة احتجاجية لمحاسبة مرتكبي الاعتداءات والتضامن مع الأمن العام والجيش السوري – 11 آذار 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
أبرز أعمال لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري:
- الاجتماع بالأهالي وممثلي الطوائف من أجل الحوار وطرح الحلول للوصول إلى السلم الأهلي.
- تفعيل دور المخاتير واللجان الشعبية والتواصل معهم.
- الدعوة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والاعتداءات من أي جهة كانت.
- التوجيه لنبذ الخطاب الطائفي عن طريق الأئمة والخطباء.
- التنسيق مع جهاز الأمن من أجل وضع الحواجز على مداخل البلدات والأحياء السكنية حماية لها.
- دعم فكرة سحب السلاح من كل المدنيين وتسليمه لجهاز الأمن.
عيروط: نرفض الخطاب الطائفي
أكد عيروط أن العناصر العسكريين تلقوا توجيهات وتعليمات بعدم الاعتداء على المدنيين والأبرياء، وقد رأى العالم كيف دخلوا دمشق والساحل بـ”الأهازيج والأفراح” ودون قطرة دم واحدة، واستمروا على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر، في منتهى التعايش والتلاحم، في سيطرة تامة على هذا الأمر من قبل الدولة وأهل الرأي والعقل، وجرت الحيلولة بينهم وبين الانتقام الذي كان متوقعًا في الغالب نتيجة المجازر التي ارتكبتها “العصابة الأسدية” باسم الطائفية.
وأضاف خلال حديثه لعنب بلدي أن ما حصل هو “تحريض الفلول أو عصابات الأسد البائدة”، والتجييش مع “الاعتداء السافر” على قوى الأمن والجيش ومحاصرة المستشفيات والمساجد، بالتنسيق مع بعض الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” وغيرهم، فكان ما كان من الجرائم والتنكيل بعناصر قوى الأمن والشرطة والجيش والمدنيين من جميع الطوائف الأبرياء، التي “راح ضحيتها أكثر من 300 شهيد فضلًا عن الجرحى”، وهنا كان لزامًا على الدولة التدخل بقوة وحزم حفاظًا على أمن الدولة والسلم الأهلي.
عيروط ذكر أن أرتال القوات الحكومية فكت الحصار عن مستشفى اللاذقية، وعملت على تطهير البلد من عصابات الفلول، وكل ما حصل من تجاوزات كان عقب دخول الأرتال، حيث دخل بعض الأفراد هنا وهناك من خارج المنطقة، وربما من أهل من جُرح ونُكب على أيدي الفلول وغيرهم، فأصبحت هناك عمليات انتقام فردية غير منضبطة.
لجنة السلم الأهلي أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
د. أنس عيروط
عضو لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري
وقال عيروط، إنه يرفض الخطاب الطائفي جملة وتفصيلًا، خاصة أنه ليس من الدين، مع تأكيده على أن غرفة العمليات ومن بعدها الحكومة دعت العناصر إلى الانضباط بضوابط الدين والقانون والأخلاق.
وذكر عضو لجنة السلم الأهلي أن اللجنة أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
لا لتفكيك النسيج الاجتماعي
خرجت أصوات وبيانات ومبادرات مجتمعية رافضة للطائفية، ونددت بالانتهاكات وأكدت على التمسك بالوحدة الوطنية، والعمل المشترك لإعادة بناء سوريا وفق أحلام ورؤى أبنائها، منها بيان صادر عن كافة مكونات مدينة سلمية وريفها التي يقطنها مزيج من مكونات تنتمي لطوائف مختلفة.
بنود بيان صادر عن جميع مكونات مدينة سلمية وريفها:
-
التمسك المطلق بالسلم الأهلي ورفض أي محاولات لزعزعة الاستقرار أو العبث بالأمن العام.
-
الإدانة الشديدة للاعتداءات التي قامت بها فلول النظام السابق.
-
الإدانة الشديدة للاعتداءات الإجرامية التي تعرض لها الأهالي في مدنهم وقراهم على يد الأطراف الخارجة على القانون، والدعوة للعمل بشكل حازم على وقف نزيف الدم السوري.
-
الوقوف الكامل إلى جانب الدولة السورية ومؤسساتها الأمنية والمدنية في جهودها الرامية إلى حماية المواطنين وتعزيز الأمن والاستقرار.
-
تثمين عالٍ لقيام الدولة بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة.
-
حصر السلاح بيد الدولة.
-
دعوة جميع القوى الوطنية والمجتمعية إلى التحلي بأعلى درجات المسؤولية والوعي، ونبذ كل أشكال التحريض والفتنة.
-
دعم الدولة في مسيرتها نحو إعادة بناء دولة القانون والمواطنة وفق مبدأ التشاركية في صنع القرارات، والتأكيد على أهمية تطبيق العدالة الانتقالية.
-
التأكيد على وحدة التراب السوري ورفض أي محاولة للتقسيم، ورفض التدخلات الخارجية.
-
الترحيب بالاتفاق الذي جرى بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة السورية.
جامعة “قرطبة” الخاصة بمدينة حلب، نظّمت من جانبها وقفة للطلاب والكادر التدريسي والإداري، حملوا فيها الورود والمشاعل، ودعوا إلى وحدة أراضي سوريا وشعبها ودعم الجهود الحكومية في هذا الخصوص، مع نبذ خطاب التحريض والكراهية والطائفية.
رئيسة جامعة “قرطبة” الخاصة في حلب، الدكتورة لارا قديد، قالت لعنب بلدي، إن الخطاب التحريضي القائم على أساس طائفي يحدث شرخًا عميقًا بين مكونات الشعب السوري، ويعزز الانقسامات ويؤجج مشاعر الكراهية والعداء.
واعتبرت قديد أن هذا النوع من الخطاب يسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي، ويزيد من حدة التوترات بين الطوائف المختلفة، وهذا بدوره يؤدي إلى تفشي العنف والنزاع.
وتابعت أن استمرار هذا الخطاب يفاقم الصراعات الداخلية ويزيد في الانقسامات المجتمعية، ما يشكل عائقًا أمام تحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
ولفتت قديد إلى أهمية المبادرات السِلمية، ومنها الوقفة التضامنية في جامعة “قرطبة”، معتبرة أنها “خطوة مهمة نحو تعزيز التسامح والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع السوري”، لأنها تسهم في بناء جسور التواصل وتعزيز الحوار بين الطوائف المختلفة، والتأكيد على الالتزام بالسلم الأهلي وضرورة التسلح بالوعي الكافي بما يساعد على تقليل التوترات الطائفية.
في مدينة الباب بريف حلب، أثار تسجيل مصور نشره فريق “عبق التطوعي” غضبًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي (حُذف لاحقًا)، لأنه أظهر توزيع التمر على الصائمين في رمضان مع عبارات تحريضية ذات صبغة طائفية.
بعد موجة الغضب، أصدر الفريق بيان اعتذارًا لجميع السوريين وخصوصًا أبناء الطائفة العلوية، أكد فيه تحمله المسؤولية عن هذا الخطأ، وشدد على أن نيته لم تكن إثارة الفتنة أو التحريض.
لقيت الحادثة تفاعلًا أهليًا، فصدرت عدة بيانات استنكرت الأمر، منها بيان من المجلس المحلي في مدينة الباب، الذي رفض هذه السلوكيات، وتوعد باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للتحقيق في ملابسات الحادثة، وإحالة المسؤولين عنها للمحاسبة وفق القوانين، لافتًا إلى أن الفريق غير مرخص لديه.
عضو اللجنة السياسية في السويداء المحامي صالح علم الدين، انتقد خطوات اتخذها أحمد الشرع وحكومة دمشق المؤقتة، معتبرًا أنها خلقت نوعًا من الارتباك الطائفي والتفرقة بين مكونات الشعب السوري.
ويرى علم الدين أن إجراءات الحكومة والشرع كانت مخالفة لبناء الدولة الجديدة، ومنحت شكل الدولة لونًا واحدًا (من حل الدستور بالكامل، وزج مقاتلين أجانب في بنية الجيش)، وهذا ما أثار نعرات طائفية، وما يجري من انتهاكات في الساحل السوري، يحمل بعدًا طائفيًا وخلافًا وجوديًا، ولا بد من تفادي هذه الحالة ومراجعة الإجراءات والخطوات.
لماذا تصطف مكونات خلف اعتقاداتها
ربما لم تُطرح مسألة الأقليات والأكثرية في أي حقبة من تاريخ سوريا كما يشار إليها خلال الفترة الماضية، في وقت تقف فيه فئات من المجتمع السوري متحصنة بانتمائها الطائفي أمام مجموعات أخرى تنتمي لطوائف أخرى، لكنها تتخذ الموقف نفسه.
قرأ أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز “دراسات الشرق المعاصر” في جامعة “السوربون” الفرنسية، برهان غليون، مصطلح الأقليات في الظروف الحالية بأنه ذو معنى لا يتطابق مع شكله المعروف في كل مكان، وعلى مر العصور.
وفي كتابه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” قال غليون، إن معنى الأقلية يُستلهم دائمًا من الظرف التاريخي السياسي الذي يعطيه شحنة تخلية، وأبعادًا اجتماعية، يمكن أن تتراوح بين المطالبة بالمساواة والدعوة إلى الاستقلال وتكوين دولة منفصلة.
وأضاف أن الأمم جمعيها مكونة من أقليات، أي جماعات متعددة ومتميزة كل واحدة عن الأخرى، سواء كانت جماعات اجتماعية أو مهنية أو جغرافية أو قومية، ولا تكون هذه الجماعات دائمًا على المستوى نفسه من القوة أو النفوذ إلى السلطة.
مسألة ذات ارتباطات تاريخية
يحتل الموضوع الطائفي مساحة واسعة ضمن الأدوات التي استخدمت على مر السنوات في الحرب السورية، واستُغل هذا الواقع من قبل أطراف عديدة محلية ودولية، وفسّر الباحث علاء الدين الخطيب، في بحث نشره مركز “تواصل لمناهضة خطاب الكراهية“، خطورة هذا الخطاب بكون الإشكال الطائفي أزمة مستمرة تاريخيًا في العالم والمنطقة وفي سوريا، وهي جزء من حركة ارتداد أصولي عالمي وإقليمي نحو الهويات الضيقة، والأهم أن خطاب التحريض الطائفي يتيح للخطاب الشعبوي الكثير من الأدوات التي تخاطب العواطف الغاضبة أو المحبطة للجماهير.
الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، قال لعنب بلدي، إن الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
وأضاف أن حالات الاضطهاد التي عانت منها الأقليات في سوريا على مر التاريخ، خصوصًا مع التغيرات السياسية التي مرت بها البلاد، ومنها “فتاوى ابن تيمية بقتل الأقليات”، شكّلت عقلًا جمعيًا عند الأقليات الدينية يخوّفها من الأكثرية في سوريا، وهو ما استثمر فيه النظام السوري السابق، بحسب قسام.
قسام قال أيضًا إن الانتهاكات التي تُهدد بها الأقليات، وحصلت في مناطق متفرقة خلال السنوات، منها بلدة قلب لوزة في إدلب التي تقطنها غالبية درزية، أسهمت في تشكيل حالة من عدم الاندماج بالمجتمع المحيط للفئة التي تعرضت للانتهاك.
ولفت إلى أن التحريض الذي لم يتوقف على مدار الأسابيع الماضية، دون رادع، أدى إلى أحداث الساحل السوري، وأسفر عن سقوط ضحايا من أبناء الطائفتين السنية والعلوية.
الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
صفوان قسام
دكتور في علم الاجتماع
خلافات في النسق الطائفي استغلها الأسد
يستند الخطاب المبني على الكراهية بشكل عام أو على الكراهية في النسق الطائفي في سوريا، بالتمايز في الهويات الدينية والمذهبية المتجذرة بالمجتمعات المحلية السورية، إلى تصورات نمطية وإلى حد ما عدائية تجاه الآخر، بناء على الهوية الطائفية وفق ما يراه الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” طلال المصطفى.
المصطفى، وهو دكتور في علم الاجتماع، قال لعنب بلدي، إن الخطاب المبني على الكراهية يتغذى على مشاعر التهميش والخوف التي عادة يضخمها السياسيون، أي أن الفاعل السياسي هو الذي يضخم الحالة، إلى جانب الدور الذي تلعبه القيادات المذهبية أو الدينية في تضخيم هذا الخطاب أيضًا.
وأضاف أن الكراهية تؤدي بطبيعة الحال إلى المزيد من العنف الانتقامي، خصوصًا عند تحميل فئة أو جماعة مسؤولية تهديدات أو صعوبات تواجهها جماعة أخرى، بمعنى أن “نسق الطائفة هو بيئة خصبة لتصعيد العنف وتصعيد الكراهية”.
ولفت الباحث إلى أن النظام السوري عمل بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 على تأجيج خطاب الكراهية، ومع مرور الوقت صار حديث الشارع يركز على حرب غير معلنة طائفية ما بين السنة والعلويين، سواء عن وعي، أو دونه، وهو ما صب عليه نظام الأسد المخلوع جهده.
وأرجع الباحث جذور الخلاف الطائفي في سوريا إلى ما قبل عام 2011، لافتًا إلى أنها مرتبطة بالنسق السلطوي للنظام، وليست من مفرزات الثورة كما كان يحاول النظام المخلوع تصويره سابقًا.
من جانبه، قسّم الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، نظرة الغالبية السنية للأحداث الطائفية في سوريا إلى تيارات متعددة، أبرزها التيار الذي عاش في شمال غربي سوريا الذي يفكر بعض أفراده من منطلق حالة انتقامية، نظرًا إلى أن أفراده هم من عاشوا في الخيام وتحت البراميل وعانوا من النزوح والقتل.
ولفت إلى أن الحالة المتناقضة جدًا في سوريا مفهومة حاليًا، على اعتبار أن العمليات الانتقامية تقاس كرد فعل من مجموعة لأخرى، الأولى كانت تتعرض لأقسى أنواع الاضطهاد، والثانية كانت تتشفى بجراحها.
وأشار إلى وجود تيار آخر في الغالبية السنية السورية، يؤمن بجوهر الإنسان، وجوهر المجتمع نفسه، وجوهر العلاقات الاجتماعية الطيبة بين الأفراد.
قسام قال أيضًا إن التيار الثالث هو التيار السياسي، وهو الذي يتصدر المشهد الإعلامي غالبًا، ويعتبر المحرك أيضًا للفئة الأولى، ويتيح له واقع الحال استخدام الخطاب الطائفي لتجييش الفئة الأولى بمعركته ضد الأقليات الدينية.
ولفت إلى أن استمرار هذا الخطاب لن يؤدي إلى استقرار، إنما سيعكس انتهاكات للحقوق على أساس طائفي ستعود للواجهة دائمًا.
الطائفية.. مخاطر وحلول
يعتبر التحزب والتخندق الطائفي أحد أسباب التدخلات الخارجية بالدول خاصة خلال القرنين الأخيرين، فالدول الغربية وتحت مسمى حماية الأقليات وجدت ذريعة للتدخل في شؤون العديد من دول المنطقة، ودعم مكونات دينية أو قومية على حساب أخرى، منذ زمن الدولة العثمانية.
في سوريا اليوم، تتعالى أصوات تحريض طائفي أو مطالبة بتدخل وحماية دولية، وهو ما يمكن أن يدفع سوريا إلى عواقب لا يحمد عقباها، وفق ما يراه مراقبون، فالأمثلة على ذلك متعددة.
مخاطر الوصاية الخارجية
دعا الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خلال كلمة مصورة، في 9 من آذار الحالي، تعليقًا على أحداث الساحل السوري، دول الإقليم والعالم للوقوف إلى جانب سوريا وتأكيد احترامهم الكامل لوحدتها وسيادتها.
وشدد الشرع على أن “سوريا ستظل صامدة ولن نسمح لأي قوى خارجية أو أطراف محلية أن تجرها إلى الفوضى أو الحرب الأهلية، ونحن على العهد ماضون مصممون على المضي قدمًا نحو المستقبل الذي يليق بشعبنا العظيم”.
وقال وزير الدفاع في حكومة دمشق المؤقتة، مرهف أبو قصرة، إن “أكبر إنجاز بعد سقوط نظام بشار الأسد هو عدم اندلاع حرب أهلية”.
وذكر أبو قصرة خلال اجتماع في العاصمة دمشق حضرته عنب بلدي، في 22 من كانون الثاني الماضي، أنه “بوعي السوريين استطعنا تجاوز مرحلة الحرب الأهلية”.
بالمقابل، تظهر عدة أصوات في الساحل أو السويداء، أو حتى شمال شرقي سوريا، تطالب بتدخل دول خارجية، تزامنًا مع عملية إعادة بناء الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد.
وحول مخاطر الطائفية على وحدة سوريا، قال مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور سمير العبد الله، إن للطائفية العديد من المخاطر، فبالإضافة إلى حالة الانقسام التي يعيشها المجتمع، وأعمال العنف في حال تطور الأمر، فهي تعزز من تدخل الدول الخارجية بالشأن الداخلي للبلد.
وتعمد بعض الدول لدعم أطراف ضد غيرها، ما يطيل أمد الصراع أو الخلاف، ويعرقل الاقتصاد والمشاريع، ويستنزف موارد الدولة، ويُنتج نخبًا ممثلة لطوائفها، بدل أن تكون نخبًا وطنية تمثل مصالح كل الشعب، وفق العبد الله.
وأضاف العبد الله لعنب بلدي أنه بالنسبة لسوريا “تجاوزت هذه المرحلة”، خاصة أن هناك رغبة دولية بنجاح الحكومة الجديدة، ودعمها لضبط الأوضاع، لكن إيران ستستمر بتحريك الطائفية، وروسيا ستراقب المشهد دون التدخل بشكل مباشر.
أبرز أخطار الوصاية الخارجية هو أن تتحول المصالح الوطنية إلى رهينة مباشرة لمصالح القوى الخارجية، بحسب ما قاله الباحث المتخصص في الشأن السياسي نادر الخليل، ففي الظروف الطبيعية، تسعى السلطة الحاكمة في أي بلد، مثل سوريا، إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة.
وأوضح الخليل لعنب بلدي، أنه في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
تسعى أي سلطة حاكمة إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة، لكن في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
نادر الخليل
باحث سياسي سوري
ولفت إلى أن هذا الوضع غالبًا ما ينعكس سلبًا على مصالح المواطنين، إذ تُهمّش احتياجاتهم لمصلحة أجندات خارجية.
ومع ذلك، في بعض الحالات، قد تخدم الوصاية الخارجية مصالح المكونات المهمّشة أو المضطهدة، وهذا لا يحدث إلا في حالات تكون فيها السلطة المحلية منحازة بشكل كبير لمصلحة مكون معين على حساب باقي المكونات الأخرى، وفق الخليل.
واعتبر أن هذه الحالة المصلحية تؤدي إلى هشاشة الانتماء الوطني، وتجعل البلد المعني ضعيفًا وقابلًا للاختراق، وعُرضة للتدخلات المتكررة ويكون كيانه السياسي “هشًا للغاية”.
ما الحلول؟
صعّدت أحداث الساحل السوري من حدة الخطاب الطائفي في سوريا، نتيجة مقتل مدنيين على يد فلول النظام السابق، أو مدنيين من الطائفة العلوية من قبل فصائل عسكرية غير منضبطة.
ولم تقتصر حالة مخاطر المرحلة على الأحداث التي شهدتها المدن الساحلية في سوريا، إذ لا يزال الخطاب الطائفي يهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، في وقت تعمل فيه الحكومة للتخفيف من وطأة الأحداث.
الباحث نادر الخليل، يرى في تعزيز سيادة القانون وتجريم تمجيد “الأسدية” أحد مداخل الحل، عبر القوننة ومحاسبة المحرضين والمجرمين بحق الشعب السوري في عهد النظام الساقط، ومحاسبة المجموعات المنفلتة ومعاقبة المتورطين في الانتهاكات، والبدء بتطبيق العدالة الانتقالية، وتجريم التحريض على الكراهية.
وأضاف أن إصلاح النظام السياسي والتمثيل الشامل في الحكم، عبر تبني نظام سياسي يضمن التمثيل العادل لجميع الطوائف والمكونات، وتعزيز اللامركزية الإدارية لتقليل التوترات بين المناطق المختلفة، وتشكيل حكومة انتقالية تضم كفاءات من مختلف الانتماءات، بما يعكس تمثيلًا حقيقيًا لجميع السوريين، تعتبر خطوة ذات أهمية في هذا السياق.
ولفت الباحث إلى ضرورة إدخال مناهج تعليمية تركز على الهوية الوطنية الجامعة وتعزز قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، إلى جانب محاربة الخطاب الطائفي والتحريض، من خلال وسائل الإعلام ومنابر الخطاب العام، وتجريم الكراهية.
الخليل قال أيضًا إن تفعيل دور المجتمع المدني لدعم المبادرات التي تعزز الوحدة الوطنية ونبذ التعصب، ولعب رجال الدين دورًا في التوعية بخطورة الطائفية وتجريم الدعوات التحريضية ذات الطابع الطائفي، يمهد للوصول إلى حل للأزمة القائمة.
ونوّه الباحث إلى ضرورة إشراك المكونات والأطراف في الحوار الوطني، وإطلاق حوارات شاملة بين مختلف المكونات للوصول إلى عقد اجتماعي جديد يعزز الوحدة الوطنية، إلى جانب إعادة بناء الثقة، من خلال جلسات مصارحة وطنية، خاصة في المناطق المختلطة، لتعزيز التفاهم بين المكونات المختلفة.
واعتبر الباحث أن إقرار المسؤولية التاريخية وتشجيع قيادات الطائفة العلوية على الاعتراف بالجرائم المرتكبة في عهد النظام السابق، يعتبر خطوة مهمة وضرورية نحو المصالحة الوطنية.
من جانبه أوصى الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام بثلاث خطوات للوصول إلى حلول في تهدئة النزعة الطائفية على الساحة السورية، أولاها اتباع أسلوب تشاركي في إدارة الدولة، إلى جانب ضرورة أن يكون الإعلام السوري ذا أجندة واضحة وتوفير مصدر واحد للمعلومات، بعيدًا عن مجموعات المؤثرين في منصة “تيك توك” و”يوتيوب” وغيرهما.
ويرى قسام أن إقالة وزير العدل، شادي الويسي، تعتبر عاملًا ضروريًا في هذا الإطار، نظرًا للطريقة التي يُنظر إليه فيها، على اعتباره مسؤولًا عن انتهاكات موثقة سابقًا، واتباع خطوات عملية باتجاه الإصلاح القضائي والقانوني، لأن عدم تفعيل هذا الجسم كلّف السوريين الكثير من الانتهاكات، نظرًا إلى أنه عرقل المسار نحو العدالة الانتقالية.
ويرى الباحث في مركز “حرمون” طلال المصطفى، أن علاج الأزمة القائمة بحاجة لخطاب سياسي وطني شامل، وهذا من مهمة الدولة، والفاعلين السياسيين، الذين يجب أن يتبنوا خطابًا يطمئن الجميع، ويتجاوز التصنيفات الطائفية، وهو ما لم يظهر حتى الآن، نظرًا إلى أن إعلام الإدارة الجديدة لم يبرز بعد.
وأكد ضرورة مسألة إصلاح المؤسسات، خاصة القانونية منها، بهدف تحقيق عدالة شاملة، وتمثيل عادل لمكونات المجتمع بمؤسسات الدولة أيضًا.
ولفت إلى أن الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
المصطفى قال أيضًا، إن المبادرات المحلية تلعب دورًا جذريًا لبناء الثقة، مثل لجان مصالحة على مستوى البلدات أو الأحياء، وتنظيم حوار بين مكونات المجتمع، لافتًا إلى أن التوعية تحتاج إلى إرادة سياسية جديدة ورؤى سياسية بعيدة المدى تتجاوز هذه الموضوعات الضيقة ذات الطابع الطائفي.
الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
طلال المصطفى
باحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”
رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال لقائه مع وفد من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق – 31 كانون الأول 2024 (رئاسة الجمهورية)
الصراع السياسي والانفجار الطائفي
برهان غليون
مفكر سوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة “السوريون” سابقًا
السبب في تحويل الانتماء الديني إلى ورقة سياسية هو استخدامه من قبل الدول الاستعمارية لتوسيع دائرة نفوذها أو التدخل مباشرة سياسيًا وعسكريًا في الدول الجديدة الناشئة.
وفي مرحلة ثانية، توظيفه من قبل الأطراف السياسية المتنازعة على السلطة في هذه الدول ذاتها بالصراع على السلطة، بمعنى آخر، ليس الاختلاف الديني هو الذي يفسر الانفجارات الطائفية وإنما الصراع السياسي.
ولا توجد حروب أو صراعات دينية كبرى إلا في سياق هذا الصراع الخارجي الاستعماري أو الداخلي.
وقد تدفع الدول الأجنبية إلى هذا الصراع بهدف التدخل في شؤون الدول الصغيرة، وفرض الوصاية هو أحد أشكال هذا التدخل أو غايته لجعله تدخلًا دائمًا وبنيويًا يضمن مصالح الدولة المتدخلة بعيدة المدى.
وأخطار الوصاية هي ببساطة تقويض الدول الجديدة، وانتزاع أكثر ما يمكن من المصالح فيها، وحرمانها من أن تتكون كدول مستقلة، تعمل لخدمة شعبها لا لخدمة المصالح الأجنبية.
وإذا أرادت الدول الأجنبية المهتمة بالفعل أن تفرض الوصاية، فأسهل طريق هو أن تشعل الصراع الطائفي، وربما تشارك في إشعاله مباشرة وتزويده بالإمكانيات كي يتحول إلى حرب أهلية.
وما نشهده في سوريا اليوم من انفجار هو ثمرة مزيج من التدخل للقوى الأجنبية التي فقدت مواقعها ونفوذها في البلاد بعد 8 من كانون الأول 2024، وكذلك من رد فعل قوى النظام السابق لخسارتها مواقعها السياسية والاقتصادية.
أما فرص نجاحها فهي محدودة جدًا، لأن هناك إرادة دولية وإقليمية واضحة لتحجيم دور طهران ومنعها من استعادة مواقعها في المشرق ولبنان وسوريا خاصة، وكذلك بسبب فقدان نظام الأسد والقوى المرتبطة به لأي تعاطف أو قبول من قبل الجميع (السوريين والأجانب) نتيجة ما ظهر من جرائمه المنقطعة النظير بعد سقوطه، والتي جعلت قادته ملاحقين من قبل العدالة المحلية والدولية.
أما الحلول لتجنب ذلك فهي تكمن في وسيلتين، الأولى بالبدء بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية الذي يضع حدًا لأوهام الانقلابيين الذين يريدون استعادة السلطة، كما يطمئن الناس من جميع الطوائف المتوجسة من بعضها البعض على احترام حقوقها الأساسية، وقصر العقاب على مرتكبي الجرائم الكبرى، وفتح الحوار والمصالحة بين الجمهور الواسع وإنهاء الخوف المتبادل لجميع الأطراف.
وفي سوريا يمكن لتشكيل حكومة اتحاد وطني شاملة أن يخفف أيضًا من الاحتقان والخوف على المستقبل.
وعلى المستوى الخارجي، من المفيد تنشيط العمل الدبلوماسي والسياسي لتهدئة غُلو (اندفاع وحماسة) الدول المتدخلة الخاسرة، وربما إيجاد حل دبلوماسي معها للتقليل من هذه الخسارة أو الشعور بها. وهذا ما يبدو لي أن الإدارة السورية تعمل عليه مع موسكو.