بين طرقات وعرة، وركام منازل مهدمة، وعلى أنقاض ما تبقى من هياكل لمدن وأحياء، يسير أطفال سوريا، في المناطق المحررة من سيطرة النظام السوري، كل صباح إلى أقبية وكهوف وخيم، وبيوت مستأجرة فوق الأرض وتحتها، من أجل التعلم. حرمتهم ظروف الصراع ارتياد المدارس الطبيعية، والتي تحولت إلى أهداف “مشروعة” لطيران النظام السوري، فخرج القسم الأكبر منها عن الخدمة، أو تحولت إلى دور إيواء لإسكان العائلات النازحة، التي هدم القصف بيوتها.
عنب بلدي – فريق التحقيقات:
تبدلت خارطة التعليم في سوريا خلال السنوات الخمس الماضية، فما كان من إقبال على المدارس ولهفة الأهالي على تعليم أطفالهم، قبل الثورة، تبدد اليوم وتراجع، وانتهى في بعض المناطق، بعدما حوّل النظام المناطق الخارجة عن سيطرته إلى ساحات صراع جعلت مستويات الإقبال على التعليم لأبناء هذه المناطق في حدودها الدنيا، وجعلت مخرجات العملية التعليمية دون المستويات العالمية، وتراجعت مستويات التعليم بنسبة 97%، وبات حوالي ثلاثة ملايين طفل سوري بحاجة “ماسة” إلى التعليم، وفق تقديرات منظمة “يونيسيف”.
كثيرة هي الأسباب التي تمنع الأطفال السوريين من الالتحاق في المدارس، على رأسها القصف الشديد للبنية التحتية التعليمية، وما خلفه من دمار واسع، والأوضاع الاقتصادية الصعبة للأهالي مع انعدام فرص العمل وتراجع القدرة الشرائية لليرة، فضلًا عن تراجع الاهتمام بالتعليم، فالرغبة بالحياة وعدم “الموت جوعًا” يمنعان الأهالي عن إرسال الأولاد للمدارس، ويدفعهم للاعتماد عليهم في الأعمال، وهو ما أصبح أمرًا أساسيًا بعد فقدان رب الأسرة، من أجل استمرار الحياة في الداخل وفي دول اللجوء المجاورة.
وأمام هذا الواقع باتت سوريا تستوعب جيلًا من الأميين لم يرتادوا المدارس، وخسرت البلاد ثلاثة عقود من التنمية البشرية، وفق تقريراللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا الإسكوا (ومقرها بيروت)، وارتفعت نسبة البطالة إلى 70%، بعد أن كانت 8٪ قبل الصراع، كما احتلت سوريا المرتبة 118 في معدلات التنمية البشرية للعام 2014 وفق تقرير للأمم المتحدة.
لكن يقابل هذه الصورة السوداء، صور أخرى مشرقة تمحو بعضًا من القتامة، فثمة أشخاص ومؤسسات، نتناولهم في هذا التحقيق، أخذوا على عاتقهم تغيير الواقع وعدم الركون لمجريات الصراع الذي يؤدي إلى نشر الجهل والأمية ويحول دون انتشار العلم، وحاولوا قدر استطاعتهم المضي باستمرار عجلة التعليم، فالثورة السورية والقائمون على فعالياتها في المناطق التي التقيناهم فيها، أكدوا على أن “التنوير” هو السبب الأساسي لخروج الثورة، وأن نشر الحرية والديموقراطية من المسلّمات، فكيف لا نلقي بالًا لقطاع التعليم؟ فخرجت إنجازات يمكن أن توصف بـ “النوعية”، مقارنة مع ما تمر به هذه المناطق وما تعانيه من صعوبات، فنشأت مديريات للتربية بإشراف من وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة، ووجدت المنظمات الداعمة، وأدخلت بعض المنظمات نظام التعليم عن بعد (E-learning)، وانطلقت عجلة التعليم العالي في المناطق المحررة، حتى سبقت التعليم الأساسي (الإلزامي).
وللمرة الأولى يعلن رسميًا عن انتقال وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة من تركيا إلى داخل سوريا، إذ افتتحت الوزارة في دارة عزة بريف حلب، وبدأ كادرها، وعلى رأسهم الوزير عماد برق، العمل من الداخل، وقد لاقت هذه الخطوة مباركة كبيرة من الحاضنة الشعبية في المناطق المحررة، كما يقول مواطنون وعاملون في القطاع التربوي، وكان للوزارة عدد من الإنجازات، أبرزها ابتعاث عشرة طلاب إلى فرنسا حصلوا على شهاداتهم من قبل الحكومة المؤقتة، إضافة إلى استيعاب ألفي طالب في الكليات الجامعية في المناطق المحررة، وضم خمسة آلاف طالب في معاهد إعداد المدرسين.
الهدنة تدفع الوضع التعليمي للأمام
بعد الانسحاب الروسي الجزئي من سوريا، ودخول هدنة “وقف الأعمال العدائية” حيز التنفيذ، تنفس القائمون على قطاع التعليم في المناطق المحررة الصعداء، أملًا بتحسن الواقع التعليمي، وهو ما حصل فعلًا، وفق ما قاله معلمون وطلاب لعنب بلدي، لكن تبعات الحرب والآثار النفسية بدت بوضوح في سلوك الأطفال، وهو ما فرض تحديًا جديدًا يتطلب المزيد من الدعم.
يقول مدير مدرسة “اقرأ وارقَ” في داريا، حسين أبو خليل، “ساعدت هدنة وقف إطلاق النار كثيرًا في تحسين العملية التعليمية، استطعنا العودة الى المدارس حيث الإضاءة والتهوية، وقد لوحظ تحسن الطلاب صحيًا، وزاد تركيزهم خلال الحصص التعليمية، كما أصبح بإمكاننا إدراج دروس للرياضة، ونشاطات أخرى كانت متوقفة خوفًا من القصف العنيف”.
ويقول أحد طلاب الصف الخامس في مدرسة “الرائدة” في حي الوعر المحاصر بحمص “الهدنة ساعدتنا في الذهاب إلى المدارس، لكننا نعاني من صعوبة المنهاج نظرًا لظروف الحرب التي نعيشها، والذهاب إلى المدرسة في غاية الخطورة، لأن الطريق مرصودة من قبل القناصين”.
بدوره، الطالب في المرحلة الثانوية بالغوطة الشرقية، عبدالله عبود، أثنى على نتائج الهدنة، وقال “كان القصف يؤثر كثيرًا على تركيزنا ويشغل بالنا، أما الآن وبعد الهدنة شعرنا بالراحة واكتسبنا الكثير من الشعور بالطمأنينة والأمان”.
ويقول مسؤول مكتب التعليم في مجلس محافظة حماة، همام الشامي، إن العمل على تجاوز المشاكل النفسية للأطفال قائم على اجتهاد المعلمين، “وليس بين أيدينا الآن الإمكانيات لوضع خطة عامة شاملة ضمن برنامج يضعه المختصون، لتجاوز الأزمات النفسية التي يعيشها أبناؤنا، ونرى أن حل هذه المشكلة يكون بجعل المدارس في مناطق آمنة وتحت الأرض أو في كهوف، ولدينا عدة أمثلة عن مدرسة في مغارة وأخرى تم حفر ملجأ تحت الأرض لها”.
تابع القراءة:
إدلب وحلب.. النصيب الأكبر من المدارس المدمرة.
النظام يشتري الأسلحة برواتب المعلمين في حلب.
الإدارة الذاتية و”تكريد” التعليم.
إدارة وتشغيل أول جامعة في حلب بعد الثورة.
بعد حلب.. تأسيس جامعة في إدلب.
السعودية تموّل برنامج “لأتعلم” بـ 17 مليون دولار.
بسبب الدمار.. تحويل البيوت في حمص إلى مدارس.
ثلاث مرجعيات تتحكم بالعملية التعليمية في إدلب.
النظام والمعارضة يتقاسمان المدارس والطلاب في حماة.
غوطتا دمشق.. القصف والجوع يُفقدان التلاميذ تركيزهم.
نقص “شديد” في توفر الكتاب المدرسي في درعا ووزارة التربية المؤقتة تنفي.
توزيع عشرة ملايين كتاب مدرسي في المناطق المحررة.
خبيرة تربوية تتنبأ بمستقبل “أسود” للتعليم في المناطق المحررة.
لقراءة الملف كاملًا: التعليم في سوريا المحررة.. مقاعد مهجورة ومدارس في الأقبية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :