تحديات الاندماج الاجتماعي في سوريا بين العائدين والمقيمين

  • 2025/03/11
  • 6:31 م
نازحون من ريف حلب إلى القامشلي - 11 كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ ربا عباس)

نازحون من ريف حلب إلى القامشلي - 11 كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ ربا عباس)

تعتبر مسألة الاندماج الاجتماعي من أبرز التحديات التي يواجهها العائدون والمقيمون في سوريا، إذ تنطوي على تعقيدات متشابكة تنبع من الخلفيات السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة بين الطرفين. فالاندماج ليس عملية تقبل أفراد في مجتمع ما، وإنما هو تجسيد لتحولات اجتماعية وفكرية تتطلب توافقًا بين الأفراد والمجتمع المحلي على العديد من الأصعدة.

في سياق سوريا، تتضح هذه التحديات بشكل خاص في فترة ما بعد سقوط الأسد، حيث يواجه العائدون ممن نزحوا من مناطقهم الأصلية صعوبة كبيرة في التكيف مع واقع جديد مليء بالاختلافات الثقافية والسياسية والاقتصادية.

من هنا، يظهر السؤال المركزي حول كيفية تكامل هذه الفئات في المجتمع المحلي وسط انقسامات كبيرة حول الهوية والانتماء، وتباين في المواقف السياسية والفكرية، وتفاوت درجات الاستقرار الاقتصادي مما يعقد العملية ويضع العديد من العوائق أمام تحقيق الاندماج.

ما تحديات الاندماج الثقافي والاقتصادي؟

الاندماج الاجتماعي هو العملية التي من خلالها يتفاعل الأفراد مع المجتمع الذي يعيشون فيه، ويتبنون قيمه وعاداته وتقاليده، ليصبحوا جزءًا فاعلًا من هذه البيئة الاجتماعية. وذلك يعني العملية الاجتماعية التي تمكن الأفراد من الانصهار في مجتمعاتهم، أفقيًا بتمثل قيمها، عاداتها (1)، عبر عملية تفاعل ديناميكي بين الأفراد والمجتمع الذي يتيح لهم أن يشعروا بالانتماء والتكامل. هذه العملية تتم على مستويات متعددة، أبرزها: الاندماج الثقافي، الاندماج الاقتصادي، والاندماج السياسي. تتطلب هذه العملية من الأفراد المتأثرين بالتهجير أو التغيرات الاجتماعية أن يتكيفوا مع بيئتهم الجديدة، وأن يعثروا على مكان لهم وسط الاجتماعي القائم.

وفي سياق العائدين والمقيمين في سوريا، تتجسد هذه العملية في تعقيد  نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، فبينما يحاول العائدون من “المهجرون من مناطقهم الأصلية التكيف مع واقع جديد، يواجهون تحديات كبيرة في محاولة الانصهار في المجتمع المحلي. هؤلاء الأفراد يتعرضون للعديد من العوائق التي تمنعهم من الاندماج الكامل، سواء كانت هذه العوائق مرتبطة بالاختلافات السياسية والفكرية أو بسبب معوقات ثقافية واجتماعية.

إن التطرق إلى مسألة الاندماج الاجتماعي يستدعي بالضرورة دراسة طبيعة الروابط الاجتماعية ومصادرها المختلفة، ومن ثم الانتقال إلى تحليل طبيعة المجتمع بشكل عام، سواء كان مجتمعًا تقليديًا أو حديثًا. وفي هذا السياق، يمكننا اعتبار عملية المقارنة بين ما هو محلي أولي وتقليدي من جهة، والمجتمع التعاقدي الحديث من جهة أخرى، بمثابة أداة تصورية ومفاهيمية بالغة الأهمية لفهم التحولات الاجتماعية (2)، التي تمر بها المجتمعات السورية.

في هذا الإطار، يبرز الاندماج الثقافي كركيزة أساسية يعتمد عليها الأفراد في عملية التكيف مع مجتمعاتهم الجديدة، حيث يتطلب منهم تبني القيم والعادات الاجتماعية السائدة في تلك المجتمعات. وفي السياق السوري، يواجه العائدون من النازحين أو المهجرين داخليًا من مناطق مختلفة تحديات كبيرة في هذا المجال، خاصة عندما يحملون معهم أفكاراً ومفاهيم قد تكون متناقضة مع القيم والعادات المحلية في مناطقهم الأصلية.

ونتيجة لذلك، تبرز هذه التحديات في الاختلافات الثقافية الجذرية بين العائدين والمقيمين، والتي تشمل تصوراتهم حول طبيعة العلاقة الاجتماعية، وفهمهم للحقوق الفردية والجماعية، إضافة إلى مواقفهم من القيم الاجتماعية مثل الحرية والمساواة. هذه الفجوات الثقافية تساهم في خلق شعور بالغربة لدى العائدين، مما ينعكس على قدرتهم في التكيف مع بيئتهم الجديدة. من جهة أخرى، تثير هذه الاختلافات مشاعر التوجس أو الرفض من قبل المقيمين، الذين قد ينظرون إلى العائدين على أنهم غرباء عن واقعهم المحلي.

إضافة إلى ذلك، فإن الاندماج الاجتماعي لا يقتصر فقط على الجانب الثقافي، بل يمتد ليشمل البُعد الاقتصادي الذي يشكل تحديًا مهمًا للعائدين سيما وأنه يعتبر عملية معقدة ومركبة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها سوريا. فعلى الرغم من أن المقيمين في المدن والمناطق التي لم تشهد تهجيرًا أو نزوحًا جماعيًا قد تمكنوا من بناء نوع من الاستقرار الاقتصادي، حتى وإن كان محدودًا في بعض الأحيان، فإن العائدين يواجهون صعوبة كبيرة في تأمين سبل العيش الأساسية، نتيجة لدمار بيوتهم وممتلكاتهم وغياب البنية التحتية وتراجع القدرة الإنتاجية للاقتصاد السوري بشكل عام.

ونتيجة لذلك، تسهم هذه الصعوبات الاقتصادية في تعزيز شعور العائدين بالاستبعاد الاجتماعي، ما يزيد من تعقيد عملية الاندماج بينهم وبين المجتمع المحلي. وبالتالي، تصبح التحديات الاقتصادية عقبة إضافية أمام بناء علاقات متوازنة بين العائدين والمقيمين، مما يفاقم من التباعد بين الفئتين ويؤثر سلباً على التفاعل الاجتماعي والاقتصادي بينهما.

كيف يؤثر الانقسام السياسي على أزمة الهوية والاندماج الاجتماعي؟

ينطوي الانتقال من نظام الجماعة التقليدي (Gemeinschaft) إلى المجتمع التعاقدي الحديث (Gesellschaft) على تغييرات عميقة في بنية العلاقات الاجتماعية ونوعية التواصل بين الأفراد. وفقًا لما ذكره تونيز، يمثل المجتمع مرحلة تعقب الجماعة التقليدية، حيث يُستبدل الارتباط الاجتماعي القائم على العادات والدين بالإرادة السياسية التي تتخذ شكل اتفاقات ورأي عام مشترك (3). هذا الانتقال يتطلب تحولات جذرية في طبيعة الروابط الاجتماعية، مما يجعل عملية الانتماء والاندماج ضمن المجموعة المحلية أكثر تعقيدًا، خاصة عندما تكون الاختلافات السياسية والفكرية شديدة.

في هذا الإطار، تتعمق حالة الصراع بين العائدين والمقيمين، إذ يُشكِّل الانقسام السياسي الحاد بينهما حاجزاً رئيسياً يعيق تحقيق الاندماج الاجتماعي والسياسي فالعائدون، الذين غالباً ما يحملون آراء سياسية وفكرية مختلفة نتيجة لتجاربهم في الثورة السورية، يجدون أنفسهم في مواجهة مع بعض المقيمين الذين كانوا ينحازون إلى النظام القائم أو يلتزمون بمواقف معارضة للثورة السورية وللثوار وعلاوة على ذلك يعتقد العائدين بأن المقيمين لا يحق لهم المشاركة في الحياة السياسية المحلية وبالإضافة إلى ذلك، يشعر العائدون بأن مواقفهم السياسية غير مرحب بها، بسبب تباين الآراء والولاءات السياسية بين الطرفين. هذا الانقسام السياسي الحاد يعزز الشعور بالاستبعاد الاجتماعي لدى كلا الفئتين، ويعيق أي فرص لتكوين روابط اجتماعية مستدامة، مما يزيد من العزلة الاجتماعية لكلا الطرفين.

علاوة على ذلك، يعتبر الصراع على الهوية والانتماء أحد العوامل الأساسية التي تعيق التفاعل الاجتماعي بين العائدين والمقيمين. العائدون يحملون معهم هويات سياسية وفكرية في الغالب متناقضة مع هويات المقيمين، الذين نشأوا في بيئة ثقافية وسياسية أحادية وتماهوا معها. هذا التباين في الهويات يساهم في شعور العائدين بالاغتراب داخل وطنهم، حيث يواجهون صعوبة في التكيف مع الواقع المحلي الجديد. في المقابل، ينظر المقيمون إلى العائدين على أنهم “غرباء” أو “متأثرين بالخارج”، مما يعزز مشاعر التوجس والرفض.

إضافة إلى ذلك، تسهم الفلول المتبقية من النظام المخلوع في تأجيج هذا الصراع الهوياتي، حيث يروج البعض من هذه القوى لخطاب يحاول تشويه صورة قوى الثورة المنتصرة بعد سقوط بشار الأسد، عبر تصويرها كـ”قوى صهيونية متحالفة مع الغرب” التي تهدف إلى القضاء على “محور المقاومة والممانعة”.

هذا الخطاب يعمل على تعميق الانقسامات والفجوات بين العائدين والمقيمين، حيث يروج لفكرة أن العائدين من الخارج قد تأثروا بأيديولوجيات مضادة للمجتمع المحلي وللهوية الوطنية، مما يزيد من مشاعر العداء والتوجس. وبالتالي، لا يقتصر الصراع على الخلافات السياسية والفكرية بين العائدين والمقيمين فقط، بل يتعداه ليصبح صراعاً يمتزج مع تصورات أيديولوجية معقدة تعيق فرص التفاهم والاندماج الاجتماعي بين الطرفين. ومن المرجّح أن تؤدي ديناميكيات الهوية المكثفة والمتنافسة إلى زيادة الجدل السياسي والاستقطاب، والانقسامات المجتمعية (4). ونتيجة لذلك، تزداد تعقيدات هذه المشكلة مع تباين الآراء حول كيفية بناء المستقبل السياسي لسوريا، وهو ما يخلق حاجزًا اجتماعيًا يمنع التفاعل والتواصل الفعّال بين الطرفين. لذلك، تصبح عملية الاندماج الاجتماعي بين العائدين والمقيمين أكثر صعوبة، حيث تبقى التوترات السياسية والفكرية حاجزاً قوياً أمام التفاعل والتكامل الاجتماعي بين الفئتين.

من أجل تسهيل عملية الاندماج، يمكن للإدارة السورية الجديدة إلى جانب منظمات المجتمع المدني تبني حلول متعددة، مثل تفعيل سياسات التوعية الثقافية من خلال حملات إعلامية مكثفة وبرامج تعليمية تهدف إلى تعزيز الفهم المتبادل بين العائدين والمقيمين. كما ينبغي تقديم الدعم الاقتصادي للعائدين من خلال دعمهم بمشاريع سبل العيش وتوفير الوظائف لهم لتحسين فرص عمل، وإعادة تأهيل البنية التحتية للمناطق المتأثرة بالحرب لضمان بيئة اقتصادية مستقرة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تحفيز المشاركة السياسية للمقيمين في عملية صنع القرار المحلي لزيادة شعورهم بالانتماء. من جهة أخرى، يمكن إنشاء برامج تدريبية عبر منظمات المجتمع المدني تركز على التكيف الاجتماعي والدمج، فضلاً عن عقد جلسات حوار محلية بين العائدين والمقيمين لتقليص الانقسامات وتعزيز التفاهم المشترك بين الطرفين.


1 – محمد مالكي، الاندماج الاجتماعي بناء مجتمع المواطنة في المغرب الكبير في جدليات الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بيروت، 2014، ص667

2- فوشان عبد القادر، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة وهران2 محمد بن أحمد ص 38

3 – فيلين راينو، ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث، ترجمة وتقديم محمد جديدي، منشورات الاختلاف، ط1 2009، ص189

4 – محمد جعفر، موقع الجزيرة. (10 مايو 2021). من صراع الحضارات إلى صراع الهويات. تم الاسترجاع من https://www.aljazeera.net/opinions/2021/5/10/

مقالات متعلقة

  1. تحديات تعوق اندماج الطلاب السوريين العائدين من تركيا
  2. تحدّيات ما بعد التسريح.. من الدّم والسلاح إلى الإنتاج
  3. الأتراك واللاجئون السوريون.. من يردم الفجوة؟
  4. خطوات لخلق الثقل الاجتماعي للاجئين في أوروبا

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي