موقفنا من أحداث الساحل.. نفسيًا

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

صحونا صباح الخميس الماضي على خبر غريب، يتحدث عن قصف مدفعي من قبل السلطات السورية لناحية الدالية في ريف جبلة، وبداية حملات من جهات وشخصيات متعددة تتهم القيادة الجديدة بمحاولة ارتكاب مجازر في تلك الناحية، ثم فجأة يبرز تحديدًا اسم قرية صغيرة تتعرض بشكل خاص لقصف مدفعي عنيف، هي بيت عانا (مسقط رأس سهيل الحسن الملقب بالنمر)، ثم نبدأ بمشاهدة أرتال عسكرية تتجه نحو تلك المناطق، ونسمع حملات في عدة صفحات ساحلية تتهم القيادة بمحاولة التهجم على الأهالي وارتكاب المجازر.

حتى قبيل الظهر، لم نكن نعلم سبب هذا التصعيد، كنا ما زلنا تحت وقع صدمة دخول الأمن في حي الدعتور باللاذقية بكل ما رافقه من تداعيات، ودخوله أيضًا جرمانا في ريف دمشق بكل ما تلاها من تصعيد وصل لدرجة دخول نتنياهو على خط هذا الصراع.

كلتا الحالتين كانت رد فعل على اغتيال عناصر أمن، بينما سلوك القصف المدفعي الثقيل على أماكن سكنية من قبل السلطات، يعد سلوكًا هو الأول من نوعه. معلومات إذًا غير واضحة وسلوك غير مفهوم.

ثم فجأة، ودون أي إنذار مسبق، في ساعات بعض الظهر، تغير مجرى الحديث لدى الكثير من صفحات الساحل، وبدأ الكلام عن “انتصارات”، وسيطرة على الحواجز بين جبلة واللاذقية، واغتيال عناصر أمن، ثم تظهر لنا مجموعات مسلحة بلباس عسكري، تتحدث لهجة أهل الساحل المميزة، يبدو أنها تنظم عمليات للسيطرة على مدن الساحل، تخطف عناصر أمن من أماكن متعددة، يسود الصمت أصوات مؤيدي الأسد، ثم قبيل مساء اليوم نفسه، تخرج مظاهرة في طرطوس تأييدًا لجبلة، مرددة شعارات الثورة (يا جبلة احنا معاكي للموت)، ثم أخبار عن خروج قوات الأمن السوري من مدينتي جبلة والقرداحة بعد فقدان السيطرة عليهما، ومحاصرة بعضهم داخل مستشفى “جبلة”.

تبدأ الحالة الأمنية بمدن الساحل بالتدهور، لدرجة هجوم مجموعة مسلحة على سيارات مدنية، واستشهاد سيدة من جزيرة أرواد تعرضت لهجوم بالرصاص على طريق بانياس، من قبل عناصر مسلحين أطلقوا النار على عائلتها لمجرد رؤيتهم سيدة محجبة، ومع انتشار الخبر، تتدهور الحالة النفسية لجميع الناس في الساحل، نتيجة الرض النفسي وعودة ذكريات حكم الأسد الأب وقصة أخيه مع اضطهاد المحجبات.

الرعب بدأ يسيطر على الجميع، وسط مناشدات الناس للسلطة بالتدخل لفرض الأمن، تلغى صلاة التراويح في معظم مساجد الساحل، ويعود الناس وكلهم خوف إلى بيوتهم، في نفس الوقت الذي يستنفر فيه آلاف الشباب ويتطوع للدفاع عن هيبة الدولة، خاصة بعد محاولة بعض تلك المجموعات المسلحة السيطرة على مبنى المحافظة في طرطوس.

في الليل تدخل سيارات عديدة أحياء الطائفة السنية في المدينة وتطلق النار بشكل عشوائي، خاصة في أحياء القصور والملعب والمينا، وتدخل في معارك مسلحة مع قوات الأمن (هناك تسجيلات مصورة لكل هذا، وألقي القبض على بعضهم)، ثم نشاهد تسجيلات لعناصر أمن مختطفين من قبل عصابة ساحلية، هنا ينتاب الجميع انطباع أن قوات الأمن تفقد السيطرة على الوضع في البلاد، وسط دعوات للالتحاق بتلك القوات، وأرتال نجدة تتجه نحو الساحل، لينتاب الجميع خوف على دمشق نفسها، بعد انتشار إشاعة أن كل ما يحدث مجرد خدعة لتترك قوات الأمن أماكنها في العاصمة. ساعات قليلة تمضي، لنرى أناسًا يستهدفون بالنار بيوتًا في شارع الحضارة بحمص (أماكن الوجود العلوي) قيل إنها لفلول النظام، أناس يسحلون جثة في منطقة الصليبة باللاذقية، ثم عشرات الصور لقتلى وشهداء من الطرفين، ووعيد وتهديد من كل طرف بالانتقام من الطرف الآخر.

أعادت قوات الأمن سيطرتها الكاملة مع شروق فجر الجمعة، وقضت على معظم هؤلاء المجرمين، لتدخل الأحياء التي كانوا محصنين فيها مرتكبة العديد من الانتهاكات التي قد يصل بعضها لدرجة الجريمة، وبدأنا نرى صورًا لضحايا مدنيين أستبعد أن يكون لهم دور في تلك الأعمال، وتسجيلات مصورة مؤلمة جدًا قيل إن معظمها كان لأسباب طائفية انتقامية (قتل لأنه علوي)، في نفس الوقت الذي تستمر به مجموعات خارجة عن القانون بالقتل الطائفي (قتل لأنه سني) في بانياس خاصة.

ظروف قاسية يعيشها السوري، ستؤثر حتمًا وبشكل كبير على الحالة النفسية له، سواء من الناحية الوجدانية أو العقلية.

إذا أردنا أن نقدم وصفًا دقيقًا لتلك الحالة، سنصفها بحالتي التشتت والخوف، تشتت نتيجة كثرة المعلومات التي ترده يوميًا وسرعة تطورها، وتعدد مصادرها، فالسوري اليوم ينظر إلى “فيس بوك” والتلفزيون، يتحدث مع عدة أشخاص ومجموعات في الوقت ذاته بواسطة تطبيقات المحادثة.

الحالة أشبه بتلك التي وصفها كولن شيري في “نظرية حفلة الكوكتيل”، فالإنسان في حالة الأصوات المرتفعة والمتعددة، سيحاول التركيز على حديث شخص واحد، لكنه يبقي انتباهه مع المجموع ككل، بدليل التقاطه السمع لو تلفظ أحد اسمه، أو أي معلومة مهمة، حتى لو كان بعيدًا عنه، وهي مهمة مرهقة جدًا للدماغ، وتقلل من تركيزه وقدرته على الاستيعاب (كما أوضح لاحقًا العالم كانمان)، فكثرة الأصوات وتعدد مصادرها ستؤدي إلى التوتر وانخفاض التركيز، ومع زيادة حالات الخوف، ستؤدي إلى انخفاض أكبر في مستوى المحاكمة المنطقية.

“الغريق يتعلق بقشة”، مثل يقرب لنا حالة المحاكمة العقلية في لحظات الخوف، وهو مثل صحيح علميًا بالمناسبة، ففعلًا الغريق يمكن أن يتعلق حتى لو بقشة إذا رآها في عرض البحر، لأنه سيتوقع لحظتها، أنه يمكن لهذه القشة إنقاذه، وهذا عائد لوصول قدرة التفكير في الدماغ لمستواها الأدنى في تلك اللحظات الصعبة.

ولأن السوري في أكثر لحظاته تشتتًا، وأقلها قدرة على رؤية الأمور بمنطقية، يجب أن تكون أحكامنا في حدودها الضيقة، والعودة للتمسك بالمبادئ الأساسية فقط، دون التورط في مواقف قد تحدث ثقوبًا في ضميرنا، والأهم هو انتظار لحظات الهدوء، وعودة الإحساس النسبي بالأمان، حينها فقط يمكن لنا أن نترك تطبيقات التواصل لبعض الوقت كي نخرج من “حفلة الكوكتيل” هذه، وهكذا يخف تشتتنا، ونبدأ التفكير بعقلانية حول تلك الأحداث، ونتخذ الموقف الصحيح بكل هدوء. حينها سيكون فعلًا موقفنا الحقيقي، المتماشي مع شخصيتنا وأفكارنا.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة