قواعد السلامة الوطنية
غزوان قرنفل
ليست وسائل النقل ولا المصانع والآلات الضخمة وحدها من لها قواعد للسلامة أو للاستخدام الآمن، الدول أيضًا لها قواعد للسلامة الوطنية التي تكفل الحفاظ على سلامة جغرافيتها وسلامة مؤسساتها، والأهم أنها تضمن سلامة مواطنيها وأمنهم وأمان عيشهم.
الشراكة والمشاركة، أهم ركائز قواعد السلامة الوطنية على مختلف المستويات، فعندما يكون الناس مواطنين فهذا يعني أن تلك الصفة منحتهم حقوقًا متساوية تحت خيمة الدولة تشعرهم بالانتماء لها، وأنهم شركاء في إدارتها وفي ثرواتها وفي تثمير مواردها بما يعود عليهم جميعًا شعورًا بالأمان الاقتصادي.
سيادة القانون، الركيزة الأساس في تكريس المساواة وترسيخ العدل بين الناس، وشرطه الأساس استقلال القضاء بما ينجيه من الضغوط التي قد تمارس عليه من السلطات الأخرى، فتحميه وتحمي المجتمع من تغول السلطة التنفيذية التي تحاول دائمًا، وفي كل الدول، أن تفرض هيمنتها وسلطانها على باقي سلطات الدولة، فتنجح هنا وتفشل هناك، لكن يبقى المعيار والضمانة هو تعزيز سلطة القضاء واستقلاله ورقابته لشطط السلطة التنفيذية ومنعها من انتهاك حقوق الناس على مختلف المستويات.
الحزم في إعمال القانون، بما لا يتيح مجالًا لأي عابث أو متجاوز أن يفتح الأبواب لجيوش الطامعين والطامحين والفلول، بعد أن يتسربل ليلًا من بطن حصان خشبي اسمه حصان “التسوية” و”اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
اليوم يمكننا القول إن سوريا كلها على عتبات النفق المعتم، الذي يريد الكثير من المتضررين من هذا التغيير الكبير إدخالها فيه، لا لكي يستردها لأنه يدرك أن ذلك صار من الماضي، ولكن ليكمل تدميرها من خلال إشعال حروب طائفية لا تبقي ولا تذر، على قاعدة أن سوريا إن لم تكن لي فلن تكون لأحد.
لا يمكن بطبيعة الحال تحميل مسؤولية ذلك للسلطة الجديدة، إلا بالقدر الذي قدمت فيه المبررات وفوتت فيه الفرص للتأسيس لسوريا مختلفة، لا يشبه شيء فيها ما كان في عهود الاستبداد والاستئثار، على الرغم من أن الذئاب الجائعة تجوس من حولها تترقب أي هفوة لتنقض على فريستها.
السوريون كلهم اليوم هم الفريسة لتلك الذئاب النهمة، بصرف النظر أخطأت السلطة أو لم تخطئ، ستبقى تلك الذئاب تتربص للانقضاض، لكن ذلك لا يجوز أن يكون متكَأ للسلطة لتبرير فشلها.
مؤتمر الحوار الوطني كان فرصة عظيمة لخلق مساحة حوار سوري بالعمق، فوّتها قصر النظر وسوء التقدير، والظن بسطحية الناس وقبولهم بأي شيء يقدم لهم. بل وصل الأمر إلى الاستهتار بعقول الناس أن صدر البيان الختامي قبل حتى تسليم بعض فرق العمل مخرجات نقاشاتها، وهو ما يؤكد عبثية السلطة وسطحيتها في التعاطي مع عقول مواطنيها.
اللجنة الدستورية وتشكيلتها مؤشر ثانٍ على الإصرار على الإقصاء، وعدم الرغبة بسماع صوت آخر غير ذلك الصوت الذي يجوس في عقول رجالات الحكم الجديد. ولا أعلم عما إذا كان تسريب مضمون الإعلان الدستوري قبل حتى بدء اللجنة مهامها أو عقد أي اجتماع لها أو كتابة سطر من ذلك الإعلان، يهدف إلى القول، “وكل شيء أحصيناه في إمام مبين”، إعمالًا لنظرية التفويض الإلهي.
لم يعد ممكنًا إدارة سوريا بالطريقة التي كانت عليها قبل الثورة، كما لا يمكن إدارتها أيضًا بنفس العقلية والأدوات التي أديرت بها إدلب، فالناس لم يعد يرهبهم الترهيب، والنقابات لم يعد ممكنًا إلحاقها وإدارتها بالترهيب، وتعبيد شارعين ونصف وتجميل حديقة أو ملعب لا يؤشر بالضرورة لتجربة ناجحة في إدلب يمكن تعميمها، فلا يعني الجائع إنشاء نافورة هنا أو تعشيب ملعب هناك. الناس مطحونون بالفقر والعوز بينما تُفتتح عشرات “المولات” التجارية وتُبنى الضواحي السكنية فئة “الخمس نجوم”، فلمن هذه ومن بناها، ومن أين لأناس ضمن بيئة صراع مسلح (قبل سقوط النظام) أن تنفق ملايين الدولارات فمن أين أتت بها، وكيف كانت مطمئنة على إنفاقها دون أدنى شعور بالخوف من أن يطالها دمار أو حتى تبدل أدوات وقوى السيطرة!
لا يمكنك اليوم تكليف حكومة وسلبها صلاحياتها بنفس الوقت، لا يمكن لكل وزير أن يعود لك ليقرر شيئًا من المفترض أنه ضمن اختصاصه. لا يمكن الضحك على رجالات المال والسياسة بتسميتهم لمنصب ما وتقييد سلطتهم بآن واحد.
لا يمكن أن تتحدث عن شراكة وطنية وأنت تهمش الشركاء من المكونات الأخرى أو حتى من أصحاب التوجهات والآراء المغايرة.
الناس ابتلعوا خديعة السنوات الخمس اللازمة لإطلاق أعمال ورشة التحول الديمقراطي المفترض، لأنهم أرادوا بعض الاستقرار ومنح السلطة الجديدة الفرصة الكافية لفعل شيء على المستويين السياسي والاقتصادي، لكنهم اكتشفوا الآن خلو وفاضها.
المجرمون الذين يعبثون اليوم بوحدة سوريا وسلامتها الوطنية، ما كانوا ليتمكنوا من ذلك لو أنهم واجهوا محاكمات على جرائمهم، ولم يُقَل لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
حقوق الضحايا وذويهم ليست ورقة للمقايضة أو مساومة القتلة والمجرمين، والمماطلة في إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية دون أي سبب أو مبرر أصبحت محل تساؤل. أما الذين لم يجدوا أبناءهم في الزنازين، أو لا يعرفون لهم قبورًا، فلن يسكتوا طويلًا.
ربما تحتاج السلطة الجديدة اليوم إلى ما يمكن تسميته بـ”الوقفة العملياتية”، كما يقول العسكريون. وقفة لإعادة النظر في الـ90 يومًا الماضية والفرص الضائعة خلالها، والتفكير فيما يجب اتخاذه من إجراءات وتدابير لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وخلق فرص جديدة لاستعادة المبادرة وإبعاد سوريا عن الهاوية التي يدفعها إليها بعض أبنائها، مع الأسف، مما يوجب إعمال سيف القانون في الكثير من الرقاب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :