عنب بلدي – جنى العيسى
في 12 من شباط الحالي، قررت وزارة العدل السورية إحالة 87 قاضيًا نشرت أسماءهم وطبيعة عملهم، وهم ممن زاولوا مهام قضائية ضمن محكمة “قضايا الإرهاب” إلى التحقيق، وهم ممن تسلموا مهام مختلفة في محكمة “الإرهاب” منذ تأسيسها في عام 2012 (نيابة عامة، تحقيق، محكمة جنايات، نقض).
وفق القرار، سيحال القضاة الواردة أسماؤهم إلى إدارة التفتيش القضائي للتحقيق معهم حول ما قاموا به خلال عملهم في المحكمة المذكورة، مع إلزام إدارة التفتيش القضائي برفع تقرير نهائي بالمخالفات المسلكية والقانونية التي ستثبت بحق القضاة المذكورين إلى مجلس القضاء الأعلى.
تثير هذه الخطوة التساؤلات حول مدى إمكانية أن يفضي التحقيق مع هؤلاء القضاة إلى معلومات تفيد بمصير المعتقلين والمختفين قسرًا في سجون النظام المخلوع منذ 2011، دون أن يُعرف مصيرهم حتى الآن.
ما محكمة “الإرهاب”؟
أنشأ النظام المخلوع محكمة “قضايا الإرهاب” بموجب القانون رقم “22” لعام 2012، عقب اندلاع الثورة السورية، وهي أقرب ما تكون إلى “فرع أمن جديد” بحسب توصيف “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
وشُكلت هذه المحكمة باقتراح من مجلس القضاء الأعلى الذي كان يترأسه رئيس النظام المخلوع، ومن صلاحيتها محاكمة المدنيين والعسكريين والأحداث وإصدار أحكام غيابية، ولا تقبل الطعن إلا لمن سلم نفسه طوعًا.
عرّف القانون رقم “22” الإرهاب بأنه “كل فعل يهدف إلى إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة، ويُرتكب باستخدام الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات أو المواد الملتهبة، أو المنتجات السامة أو المحرقة أو العوامل الوبائية أو الجرثومية مهما كان نوع هذه الوسائل أو باستخدام أي أداة تؤدي الغرض ذاته”.
قد يفضي إلى نتائج
الخبير القانوني والمتخصص في مجال حقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، قال لعنب بلدي، إن هذا القرار يعد خطوة مهمة قد تفتح المجال أمام تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات التي ارتُكبت في إطار عمل هذه المحكمة، معتبرًا أن من المتوقع أن يسهم التحقيق في الكشف عن حقائق تتعلق بالممارسات القضائية التي أفضت إلى إصدار أحكام قاسية، بما في ذلك الإعدامات التعسفية والاعتقالات غير القانونية.
حول أبرز النتائج المرجوة من هذا التحقيق، يرى الكيلاني أن مساءلة القضاة الذين أصدروا أحكامًا ظالمة بحق المعتقلين، خاصة في ظل التقارير التي تفيد بتعرض العديد منهم لمحاكمات غير عادلة افتقرت إلى أبسط معايير العدالة، هي المسألة الأبرز.
كما قد يسفر التحقيق عن كشف معلومات مهمة تتعلق بمصير المفقودين، إذ يمكن استجواب القضاة والمسؤولين عن الملفات القضائية للحصول على تفاصيل حول الأشخاص الذين اختفوا قسرًا بعد اعتقالهم، ومن خلال توثيق هذه الانتهاكات، يمكن تعزيز جهود المحاسبة وضمان عدم الإفلات من العقاب، بحسب الخبير القانوني.
قتل تعسفي
إلى جانب محكمة “الميدان العسكرية” ومحاكم “الجنايات العسكرية والعادية”، تعتبر محاكم “الإرهاب” إحدى المحاكم التي اعتمد عليها نظام الأسد لإصدار وتنفيذ أحكام الإعدام لمعارضيه، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
وثقت “الشبكة” العلاقة الوثيقة بين الإخفاء القسري وتنفيذ الإعدامات، إذ بلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرًا لدى النظام 136614 شخصًا حتى آب 2024، من بينهم 112414 شخصًا لا يزال مصيرهم مجهولًا، وتشير الأدلة إلى أن الغالبية العظمى منهم قد تمت تصفيتهم في السجون، سواء عبر التعذيب أو الإعدام السري، دون أي إجراءات قانونية، وفق التقرير.
وذكر التقرير أن محكمة “الإرهاب” تعد واحدة من أخطر المحاكم الاستثنائية التي أنشأها نظام الأسد، إذ مثلت انعكاسًا واضحًا لهيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، ما جعلها أقرب إلى فرع أمني منها إلى محكمة قضائية مستقلة.
وقد أصدرت المحكمة آلاف أحكام الإعدام بحق معارضين سياسيين، دون مراعاة أي من معايير المحاكمة العادلة المنصوص عليها في المادة “14” من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما أن جميع أحكام الإعدام الصادرة عنها تعتبر عمليات قتل تعسفي وفق القانون الدولي.
محاكم خاصة
في 14 من كانون الثاني الماضي، قال وزير العدل في حكومة دمشق المؤقتة، شادي الويسي، إنه يجري إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة شخصيات في النظام السابق وأعوانهم “ممن أجرموا بحق الشعب السوري”.
وقال الويسي في حوار مع قناة “الجزيرة مباشر”، إن المحاكم الخاصة بمحاسبة مجرمي النظام السابق، سيبدأ العمل بها مع بداية المرحلة الانتقالية في آذار المقبل، مشيرًا إلى أنه تجري حاليًا تحقيقات مع شخصيات في النظام السابق بشأن جرائم منسوبة إليهم.
وأضاف الويسي أن وزارة العدل السورية خاطبت المحكمة الجنائية الدولية و”الإنتربول” الدولي بشأن ملاحقة رموز النظام السابق وتسليمهم للإدارة السورية.
وفيما يخص المختفين قسرًا الذين كانوا في سجون النظام السابق، قال الويسي، “نسعى لعمل قاعدة بيانات بالتعاون مع العديد من الجهات من أجل الوصول إلى عدد المختفين قسرًا، والتقديرات تشير إلى وجود ربع مليون مختفٍ قسرًا خلال حكم نظام الأسد”، مضيفًا أن وزارة العدل قامت بتجميد محاكم الإرهاب.
لجنة مستقلة
الخبير القانوني المعتصم الكيلاني، يرى أنه لكي تحقق الحكومة السورية نتائج تخدم قضية المفقودين وتسهم في تحقيق العدالة، من الضروري تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تضم قضاة ومحامين مشهودًا لهم بالنزاهة والخبرة في قضايا حقوق الإنسان، إذ يجب أن يتمتع أعضاء اللجنة بالاستقلالية الكاملة لضمان نزاهة التحقيق وعدم تعرضه لأي ضغوط سياسية أو أمنية.
كما ينبغي اتخاذ إجراءات فعالة لحماية الشهود والمبلغين، وتوفير بيئة آمنة تتيح لهم تقديم شهاداتهم دون خوف من الانتقام، وهو أمر ضروري لتعزيز مصداقية التحقيقات وتشجيع المزيد من الأشخاص على الإدلاء بمعلومات قد تسهم في كشف الحقيقة.
التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية سيكون عنصرًا أساسيًا في هذه العملية، وفق الكيلاني، حيث يمكن الاستفادة من خبراتها في التوثيق وجمع الأدلة، بما يسهم في تعزيز الشفافية والمصداقية، ومن المهم أيضًا نشر نتائج التحقيق بشكل علني، لكي يكون هناك وعي مجتمعي بالإجراءات المتخذة، ما يعزز الثقة في النظام القضائي ويبعث برسالة واضحة بأن الانتهاكات لن تمر دون مساءلة.
سوريون يبحثون عن أقاربهم من خلال الملصقات التي علقوها في ساحة المرجة بدمشق – 16 كانون الأول 2024 (الأناضول)
خطوات مطلوبة
في سياق أوسع، يرى الخبير القانوني أن التحقيق مع قضاة محاكم “الإرهاب” يجب أن يكون جزءًا من عملية أعمق لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في سوريا، سواء من خلال إنشاء هيئة قضائية مستقلة مختصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أو من خلال اللجوء إلى الآليات القضائية الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، كما يمكن الاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية، حيث يمكن للدول التي تسمح قوانينها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية أن تباشر إجراءات قانونية ضد الضالعين بها، حتى لو لم يكونوا مواطنين فيها.
تحقيق العدالة لا يقتصر على محاسبة المسؤولين فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا إنصاف الضحايا وتعويضهم، ويجب أن يكون هناك اعتراف رسمي بضحايا الانتهاكات، مع توثيق أسمائهم وإدراجهم ضمن قوائم رسمية توضح مدى الضرر الذي تعرضوا له، فضلًا عن أن إنشاء صندوق لتعويض الضحايا وأسرهم سيكون خطوة مهمة في هذا الاتجاه، حيث يمكن تمويله من الأصول المصادرة من الشخصيات الضالعة في الجرائم، بالإضافة إلى مساهمات دولية تهدف إلى دعم العدالة الانتقالية.
من الضروري كذلك تمكين الضحايا من المشاركة في العملية القضائية، من خلال توفير آليات قانونية تتيح لهم الإدلاء بشهاداتهم والمطالبة بحقوقهم، مع ضمان حمايتهم من أي أعمال انتقامية.
حول إصلاح النظام القضائي، يرى الكيلاني أن هذا الأمر يعد ضرورة حتمية لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل، وينبغي إجراء تغييرات جذرية تضمن استقلال القضاء وإبعاده عن سيطرة الأجهزة الأمنية، إضافة إلى إنهاء عمل المحاكم الاستثنائية مثل محكمة “قضايا الإرهاب”، التي استخدمت كأداة للقمع السياسي أكثر من كونها جهة قضائية تسعى لتحقيق العدالة، ويجب أن تشمل الإصلاحات أيضًا محاسبة القضاة الذين تورطوا في إصدار أحكام جائرة، ومنعهم من تولي أي مناصب قضائية مستقبلية.
إلى جانب هذه الإجراءات، يبقى توثيق الجرائم والانتهاكات عاملًا حاسمًا في تعزيز المحاسبة، إذ يجب إنشاء لجنة وطنية مستقلة تعمل على جمع الأدلة والشهادات المتعلقة بجرائم الحرب، بالتعاون مع منظمات حقوقية دولية، وفتح الأرشيف الأمني والقضائي والسماح بالوصول إلى السجلات المتعلقة بالمعتقلين والمفقودين سيكون خطوة جوهرية في كشف الحقيقة، كما يجب إدراج أسماء الضالعين بالجرائم في قوائم العقوبات الدولية، لمنعهم من الإفلات من العقاب عبر فرض قيود على سفرهم وتجميد أصولهم المالية.
على المستوى المجتمعي، يجب أن ترافق هذه الجهود مبادرات للحقيقة والمصالحة، تتيح للضحايا وعائلاتهم سماع شهادات من الجناة في إطار اعترافات علنية تفضي إلى تحقيق العدالة.
والحفاظ على الذاكرة الوطنية أمر أساسي لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إقامة نصب تذكارية ومتاحف توثق الجرائم المرتكبة، كما ينبغي إدماج مناهج حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في النظام التعليمي والقضائي، لتعزيز ثقافة المحاسبة وسيادة القانون.
ويرى الخبير القانوني المعتصم الكيلاني، أن تحقيق العدالة في سوريا يتطلب مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار المساءلة والمصالحة والإصلاح المؤسسي، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي دون معالجة جذور الانتهاكات وضمان عدم تكرارها. لذلك، فإن أي محاولة لتحقيق العدالة يجب أن تكون مبنية على كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، وضمان عدم الإفلات من العقاب، كخطوات أساسية نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية.
ويثير تأخر تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا المخاوف بشأن أثر ذلك على السوريين، خاصة الضحايا ممن تضرروا في عهد النظام ويبحثون عن عدالة تخفف من حجم معاناتهم وترد إليهم جزءًا من حقوقهم.
وتتطلب العدالة الانتقالية مدة زمنية لإطلاق المسارات التي تأتي تباعًا، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن مركز “الحوار السوري“، في 11 من شباط الماضي.
وحتى لا يتعرض الضحايا وذووهم في الحالة السورية لخيبات أمل واسعة تفقدهم الإصرار على تطبيق العدالة، فإن من المهم معرفة نسبية الإنجازات المتاحة، وتشجيعهم على طرح مبادرات وأفكار إبداعية للتعامل مع إرث الماضي، وفق التقرير.
مفوضية عليا للنظر في قضية المفقودين
أعلن وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، تأسيس مفوضية عليا للنظر في قضية المفقودين والمختفين قسرًا، وذلك خلال كلمة مصوّرة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وقال الشيباني إن الحكومة الجديدة ملتزمة بتحقيق العدالة الانتقالية وضمان حقوق الضحايا والمفقودين والأحياء، معتبرًا أن غياب الأحباب “عذاب لا يطاق”، لافتًا إلى أن جميع العائلات السورية تقريبًا مرت بهذه التجربة المؤلمة.
وأوضح الشيباني، في 27 من شباط الماضي، أن السوريين عاشوا لأكثر من خمسة عقود تحت حكم استبدادي، تعرضوا خلاله للقمع والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، مشيرًا إلى أن النظام السابق استخدم البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والذخائر العنقودية ضد المدنيين، كما تحولت السجون إلى مراكز تعذيب وقتل.
وأضاف أن الناجين من المعتقلات تحدثوا عن ممارسات مروعة، مثل الصعق الكهربائي والتجويع والعنف الجنسي، بينما عاش المهجرون قسرًا مشتتين في المنافي دون معرفة مصيرهم أو إمكانية عودتهم.
وأكد أن سوريا دخلت مرحلة جديدة “انتصرت فيها إرادة الشعب”، لكنها تواجه تحديات كبيرة على المستويات السياسية والإنسانية والخدمية، مشددًا على ضرورة تجاوز آثار “الإرث الثقيل” الذي خلفه النظام السابق.
الحكومة السورية بدأت تنفيذ إجراءات لتحقيق العدالة، بحسب الشيباني، منها السماح لأول مرة للجان التحقيق الدولية بدخول البلاد، واستقبال منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في زيارة وصفها بالتاريخية، إضافة إلى التعاون مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي أنشأتها الأمم المتحدة، مؤكدًا التزام الحكومة بالسعي لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة.
وشدد على ضرورة ضمان عدم تكرار الانتهاكات، مؤكدًا أن الشعب السوري يستحق وطنًا يُصان فيه حقه بالحرية والكرامة.
ودعا المجتمع الدولي لدعم جهود الحكومة في تحقيق العدالة الانتقالية، والعمل على إنهاء معاناة السوريين المستمرة منذ أكثر من 14 عامًا.
وقبل أيام، عقدت حكومة دمشق المؤقتة مؤتمر “الحوار الوطني“، بحضور نحو 600 شخصية سورية، وخرجت ببيان ختامي يتضمن 18 بندًا.
وتضمن أحد البنود تحقيق العدالة الانتقالية، من خلال محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، وإصلاح المنظومة القضائية، وسن التشريعات اللازمة، والآليات المناسبة لضمان تحقيق العدالة، واستعادة الحقوق.