عنب بلدي – حسن إبراهيم
ما إن تدخل أسواق دمشق القديمة حتى تخطف ناظريك صور بشار الأسد وشقيقه ماهر ووالدهما حافظ، لكنها ليست على الجدران أو أبواب المحال أو مداخل الأسواق، إنما مطرزة على الجوارب والدوّاسات، وتكتظ بها “البسطات”، معروضة للبيع بسعر يتراوح بين 7000 و15000 ليرة سورية.
“دعّاسة الحمّام بـ15 ألفًا”، “دوس الأسد بعشرة آلاف”، “الكر وأبوه بـ25 ألفًا” بأصوات مرتفعة وعبارات غير معتادة داخل سوق “الحميدية”، ينادي الباعة على منتجاتهم التي تحمل صور آل الأسد، جاذبين بها الزبائن، في مشهد بدأ يتصاعد تدريجيًا منذ 8 من كانون الأول 2024، مع النهاية الدرامية لنصف قرن من حكم عائلة الأسد لسوريا.
إقبال ملحوظ من المارّة للشراء والتصوير، بدوافع التهكم والسخرية والانتقام والتشفّي وكسر رمزية “الأبد” التي لطالما روّج لها آل الأسد، وحولوا أسماءهم طيلة 53 عامًا إلى “رموز مقدّسة” أكبر من المواطن والوطن والإله، يؤدي المساس بها أو التعاطي معها إلى الهلاك.
باعة: “ترقبوا الأحذية والملابس الداخلية”
في جولة لعنب بلدي في سوق “الحميدية”، يوجد أكثر من 30 “بسطة” لبيع الجوارب التي تحمل صورًا لآل الأسد، مرفقة مع عبارات “أبو رقبة” في إشارة إلى رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد، و”ملك الكبتاجون” و”أكبر تاجر كبتاجون” مع صورة بشار وبعضها لماهر، و”هكذا تقف الأسود” مع صورة حافظ الأسد شبه عارٍ.
بعبارة “هذه نهايتك، تحت الأقدام.. اذهب إلى مزابل التاريخ”، تبعتها ضحكة ممزوجة بمشاعر التشفّي والانتقام، لخّص محمد وهو بائع في سوق “القيمرية” أسباب وجود صور بشار الأسد على الجوارب التي يبيعها، لافتًا إلى أنها تعبر عن الإهانة والانتقام.
وقال محمد لعنب بلدي، إن السوريين يحبون من يحترم كراماتهم ويصون حرياتهم، وأثبتوا أنه مهما طال الزمن، لا بد للظلم أن يزول، معتبرًا أن الصور على الجوارب فيها رمزية تشير إلى نهاية كل شخص يتكّبر على الناس، و”يظن نفسه إلهًا، ويستخسر فيهم الكلمة الطيبة”.
أما علاء، فيبيع على “بسطته” في سوق “الحميدية” من 10 إلى 15 زوجًا من الجوارب (التي تحمل صور آل الأسد) يوميًا بسعر 15 ألف ليرة سورية للزوج، قائلًا لعنب بلدي، إنه يجهّز لطباعة صورهم على الملابس الداخلية الرجالية (البوكسرات) وعلى الأحذية (الشحّاطات).
وذكر البائع أن سعر الجوارب يختلف بين بائع وآخر، لافتًا إلى أنها أغلى ثمنًا من الجوارب العادية التي يباع الزوج منها بـ3000 إلى 5000 ليرة سورية.
وأرجع البائع سبب الإقبال سواء للشراء أو التصوير، إلى رغبة الناس بأخذ حقهم معنويًا عبر التهكم والسخرية، مضيفًا أن الناس مقهورون، ووصلوا في عهد بشار إلى حالة يرثى لها، و”يحتاجون إلى نوع من التشفّي” حتى لو كان ذلك من خلال الصور.
“مسح الدكتاتورية”.. رد فعل ضد التقديس
الصحفي السوري أحمد حاج بكري، اشترى زوجًا من “الجوارب” عليها صورة حافظ الأسد عاريًا بلباس داخلي فقط مع عبارة “هكذا تنظر الأسود”، رغبة منه بتحقيق شعار من هتافات الثورة السورية “بندوسهم بندوسهم”، ويرى فيه نوعًا من الانتقام النفسي من الدكتاتورية وكسر صورة الدكتاتور، قائلًا، “فعليًا بكل خطوة عم ندوسهم”.
وقال الصحفي الذي سافر إلى سوريا بالتزامن مع انطلاق عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى سقوط النظام السوري السابق، إن الخوف من الأسد لا يزال حاضرًا في أذهان كثير من السوريين، لافتًا إلى ضرورة وجود عمل مضاد سواء ببعد إعلامي أو فكري، حتى تنكسر هذه الصورة، وتتغيّر فكرة القبضة الأمنية التي تسيطر على كثير من السوريين.
وعلّق حاج بكري في حديثه لعنب بلدي على استخدام صور بشار أو ماهر أو حافظ على سلع مثل “الجوارب” أو “الدوّاسات أمام المحال”، بأنها جزء من مسح الدكتاتورية و”تحويل كل مجرم إلى ممسحة تحت أقدام الشعب”، وهو نوع من التعبير عن الفرح بالنصر من قبل الأهالي.
ولا يرى وائل عبد الحق، وهو أحد المارّة في سوق “الحميدية”، وجود صور آل الأسد على الجوارب أو حتى على مناديل “الحمّام” وغيرها من السلع إلا نوعًا من الفكاهة لدى السوريين، معتبرًا أن هذه المظاهر ليست انتقامية، لأنها لا تطفئ نار الانتقام والمظلومية التي عانى منها الشعب في ظل حكم الأسدين.
الصحفي والباحث الاجتماعي سلطان جلبي، يرى أن إقبال الأشخاص على الشراء أو رواج هذه المنتجات هو رد فعل عكسي على “عقود من التعظيم والتأليه لحافظ الأسد الأب وبعده بشار”، ورد فعل حتى على الفئات الاجتماعية الأكثر ولاء للنظام، والتي كانت تظهر هذه الرموز بشكل “تأليهي وأسطوري”، دون الاستناد إلى المنطق والعقل.
وقال جلبي لعنب بلدي، إنها موجة عكسية على حالة التقديس، وتتمثل بـ”تسفيه هذه الشخصيات وإهانتهم والانتقام الرمزي من فداحة الظلم الذي تعرض له السوريون”، الذين لم يكن باستطاعتهم النقد أو المعارضة بأي شكل من الأشكال.
“بزنس” أيضًا
خلال المشاهدات والرصد، منذ 8 من كانون الأول 2024، بدأ التجار بطباعة أعلام الثورة، وأعادوا إنتاج عدة سلع وفق ما يطلبه الشارع سواء على القلائد والسلاسل التي تحمل علم وخريطة سوريا، مع إبقاء الألوان القديمة (الحمراء) وإضافة ألوان جديدة فوقها (الخضراء).
ولفت الصحفي أحمد حاج بكري إلى أن تعزيز حضور هذه السلع في الأسواق يعود إلى رغبة التجار باستغلال أي فرصة لتسويق منتج جديد جاذب للزبائن، وتحويل أي مادة إلى سلعة تجارية.
ويرى الصحفي والباحث الاجتماعي سلطان جلبي أن عامل “البزنس” لعب دوره في ظهور المنتجات ورواجها، لأن كثيرًا من التجار والصناعيين يتبعون “الترند”، وسرعان ما يربطون اهتمامات الناس بمنتجاتهم.
وذكر أن الباعة ربما لا يحملون أي هدف أو رمزية من ربط الحالة السياسية الحاصلة بالبلد مع منتجاتهم، سوى نفاد بضاعتهم ورواجها وبيعها وحتى فرض سعر أعلى من شبيهها في الأسواق.
ولفت جلبي إلى أن الآلات التي كانت تطبع قمصان “منحبك” مع صورة بشار الأسد، و”سوا منعمرها” وغيرها من الصور والكتابات التي كانت تمدح وتمجد رموز النظام السوري السابق، نفسها تروّج وتصنع هذه المنتجات اليوم.
زال الخوف وتحطمت التماثيل
بعد انطلاق معركة “ردع العدوان”، تتالى إسقاط التماثيل المرتبطة بآل الأسد والتي كانت موجودة في كل مدينة وبلدة، في نهج سارت عليه العائلة منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري عام 1970، وتوليه رئيسًا في عام 1971، ثم أخذ هذا النهج بالتوسع على يد ابنه بشار بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011.
مزّق السوريون صور العائلة وحزب “البعث”، وأسقطوا التماثيل المتناثرة في معظم أنحاء البلاد، وفي يوم هروب بشار الأسد إلى موسكو، أسقط أهالي بلدة دير عطية في القلمون تمثال حافظ الأسد، وهو أكبر تمثال له في سوريا.
ولا توجد إحصائية رسمية لعدد تماثيل آل الأسد في سوريا، حيث أسقطها متظاهرون وعسكريون وأهالٍ وناشطون، وجرّوا بعضها في الشوارع ضمن مظاهر احتفالية، وأشرفت شركات تنظيف ومجالس بلديات وجهات محلية على إزالة بقاياها، بينما تشير أرقام تقديرية إلى أن عدد التماثيل يتجاوز الـ3000 تمثال.
كما تعرضت مقبرة عائلة الأسد في القرداحة للحرق وتكسير الرخام الموجود داخلها، وداس مدنيون وعسكريون على قبر حافظ الأسد وقبر زوجته، وأحرقوا نصبهم التذكارية.
هذه المظاهر عكست انهيار مملكة الرعب والخوف والقبضة الأمنية الحديدية في سوريا، ونهاية حقبة تبعية الوطن لشخص أو لعائلة، ومزقت صور آل الأسد التي كانت مرافقة للسوريين في كل مكان.
قبل سقوط الأسد، وفي الوقت الذي كان الشعب السوري يعيش أزمات متلاحقة معيشيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كان النظام السوري يعيد بناء التماثيل موجهًا رسائل “القوة والترهيب وتكريس التمجيد”، وكان أحدثها في تشرين الثاني 2024، حين شيّد تمثالًا لحافظ الأسد الأب وسط مدينة خان شيخون جنوبي إدلب، في المدينة نفسها التي ذاقت ويلات نيران قواته، وارتكب فيها مجزرة مستخدمًا السلاح الكيماوي، في نيسان 2017، وأدت إلى مقتل 91 مدنيًا، وإصابة قرابة 520 شخصًا.
ومع هرب بشار إلى موسكو، انتشرت صور من ألبوم عائلي له، خلقت موجة من السخرية والتهكم والدهشة، عرضت بعضها بشار مرتديًا سروالًا داخليًا فقط في المطبخ وفي ساحة البيت وعلى يخت ومع والده، الذي ظهر أيضًا بلباس داخلي مستعرضًا عضلاته.
وتشير أنجيليك هاوجيرود في كتابها “No Billionaire Left Behind” إلى أن الفكاهة يمكن أن تكون أقوى من العداوة، وحتى المفوضون في الأنظمة الاستبدادية قد يتقبلون كراهية المواطنين لهم، لكنهم يخشون ضحكهم لأنه يبرز حدود الدعاية والقمع.
أما المنظِّرة السياسية حنّة آرنت (Hannah Arendt) فاعتبرت أن “أعظم عدو للسلطة هو الازدراء، والطريقة الأكثر أمانًا لتقويضها هي الضحك”.