العدالة الانتقالية: الضحايا أولًا.. حقوق أصيلة وركائز أساسية

tag icon ع ع ع

منصور العمري

مفهوم العدالة الانتقالية حديث نسبيًا، وما زال يشهد تطورات من حيث التعريف والأدوات. مهما كانت نتيجة التجربة السورية في العدالة الانتقالية، إن تكللت بالنجاح أو أصابها الفشل، أو اتسمت بفعالية محدودة، ستكون إضافة كبيرة ومهمة لتطوير هذا المفهوم، وتغني الأدبيات الأكاديمية وتجارب الأمم الأخرى المستقبلية، للتعلم منها.

من المتعارف عليه أنه للعدالة الانتقالية أربعة ركائز، ولا يمكن إسقاط أحدها فتسقط حقوق أصيلة للسوريين، وتعرقل الأخريات.

  1. ضمانات عدم التكرار: اتخاذ تدابير لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل، وتشمل أدوات عديدة منها القانونية والسياسية المجتمعية والإعلامية وغيرها.
  2. الحقيقة: الكشف عن الحقائق الكاملة حول الانتهاكات التي حدثت. يتطلب ذلك إحداث لجنة تدون تاريخ سوريا بالتفاصيل منذ آذار/مارس 2011، على الأقل، ويمكن أن تمتد لتشمل مراحل أو حوادث كبرى سابقة.
  3. العدالة: محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. تشمل المحاسبة طيف واسع من الأدوات، بما فيها القضائية، وسن قوانين المحاسبة السياسية والمجتمعية، كالعزل السياسي الدائم أو المحدود، وفرض الاعتراف، والاعتذار، وغيرها.
  4. التعويضات: تقديم تعويضات مناسبة للضحايا عن الأضرار التي لحقت بهم. لا يمكن ترك الضحايا بدون تعويض يتناسب وحجم الانتهاك والضرر. يشكل هذا التعويض أساسًا في بناء الاقتصاد الوطني بمساهمة شريحة كبيرة من السوريين فيه، وهم الضحايا.
العدالة الانتقالية.. الضحايا أولًا (منصور العمري)

العدالة الانتقالية.. الضحايا أولًا (منصور العمري)

قد يضاف إلى الركائز الأربعة الشائعة، ركائز أخرى، ولكن البعض يرى أن التفاعل بين الركائز الأربعة يمكن أن يؤدي إلى يحققها، أو يمكن الوصول إليها كنتائج لتطبيق هذه الركائز، ومن بينها الإصلاح المؤسساتي، والمصالحة والسلم الأهلي وإرساء سيادة القانون، وحماية الحقوق، والحريات وغيرها.

أيًا كانت تسميات ركائز العملية الانتقالية أو عددها أو مدى تطبيقها، هناك مبدأ رئيس في العدالة الانتقالية وهو أنها تركز بشكل أولوي على الضحايا، ومحورية دورهم في العملية بأكملها. أي تجاهل أو تهاون في حقوق الضحايا يشكل تقصير فادح من الدولة والمؤسسة الموكلة بتصميم عملية العدالة الانتقالية وتنفيذها، وستديم مظلومية الضحايا ومعاناتهم، وقد تهدد الاستقرار ومستقبل البلاد.

حقوق الضحايا، أفرادًا وجماعات، حقوق أصيلة لا يجوز التنازل عنها، لا من قِبل الدولة/الحكومة ولا المنظمات أو المجموعات التمثيلية.

تفسير الركائز ومدى تطبيقها، أحد محاور الركيزة الأولى: شكل الدولة كأحد الأسباب الجذرية للانتهاكات

يكمن التحدي في كيفية تفسير حجم ومدى هذه الركائز والأولويات وتنفيذها على نحو فعّال. مثلًا، بالنسبة لضمانات عدم التكرار، يجب أن يشمل ذلك تغيير شكل وآليات الحكم التي سمحت بوقوع الانتهاكات.

أحد الأسباب الرئيسة التي سمحت بارتكاب هذه الفظائع في سوريا هو شكل هيكل السلطة في الدولة، وطبيعة الحكم: دولة مخابراتية يرأسها ويديرها أفراد بسلطات مديدة وغير مقيدة، مدعومة بالعناصر التالية:

  • غياب دور فاعل أو حقيقي للمجتمع المدني، واستبداله باتحادات ونقابات وغيرها تمثل النظام الحاكم.
  • غياب الصحافة الحرة والمستقلة والمهنية والتعددية، واستبدالها بوسائل إعلام ناطقة بصوت واحد باسم النظام الحاكم.
  • غياب الشفافية والرقابة على أداء الحكومة، واستبدالها بتطبيع الفساد وتعميمه عموديًا وأفقيًا.
  • غياب الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتجمعها بيد شخص أو مجموعة من الأشخاص أو الجماعات مترابطي المصالح.
  • عدم استقلالية القضاء وفساده وتبعيته لأجهزة أمن النظام الحاكم.
  • انعدام تداول السلطة من رأس هرمها ونزولًا.
  • منع العمل السياسي الفاعل، وتأطيره تحت مظلة النظام الحاكم.
  • تصميم مناهج التعليم بمختلف مستوياتها بما يخدم النظام الحاكم، ويحرف التعليم عن غايته الرئيسة.

لذا، من أحد ضمانات عدم التكرار الأساسية تغيير شكل وهيكلية الدولة، بحيث لا يسمح شكل الدولة المستقبلة بارتكاب هذه الفظائع. هذا يعني إصلاح جميع العناصر المذكورة التي دعمت حكم الفرد والجماعة الواحدة المطلق. حتى نتمكن من منع تكرار الفظائع التي حدثت في سوريا، يجب إجراء تغييرات جذرية في هياكل السلطة لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.


*منصور العمري: مدافع سوري عن حقوق الإنسان، حاصل على ماجستير في العدالة الانتقالية والصراع. يعمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. في عام 2012، اعتقلت الحكومة السورية العمري وعذبته لمدة 356 يومًا بسبب توثيقه فظائعها، في أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة