تنفست أنقرة.. فانتعشت دمشق

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

تقول الرواية في نسختها التركية، إن محادثات الحكومة التركية مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب “العمال” القابع في سجن جزيرة إيمرالي منذ أكثر من ربع قرن، قد قطعت شوطًا بعيدًا، ووصلت ربما إلى عتبات اتفاق نهائي يتضمن إعلانًا من أوجلان بالصوت والصورة بحل حزب “العمال” وإلقاء السلاح والالتزام بوحدة الجغرافيا التركية، واتخاذ السبل السياسية وسيلة للانخراط بالشأن العام وتحقيق المطالب، مقابل الاستجابة للمطالب العادلة للكرد والعفو عن أوجلان وإطلاقه من محبسه، وهو في الواقع اختراق مهم في جدار صراع مستحكم في تركيا منذ أكثر من 40 عامًا، وهو مكسب بكل المعايير للمجتمع التركي كله، كردًا وتركًا، لأنه يطوي صفحة مليئة بالدم والضحايا والكراهية، ويؤسس لسلام نأمل أن يكون مستدامًا.

وتقول الرواية في نسختها العربية، إن قيادة السلطة السورية الجديدة قاومت ضغوطًا كي لا تدخل في صراع عسكري مع سلطات شرق الفرات، وأنها أرادت أن تفسح المجال للحلول السلمية التي من شأنها خلق حالة استجابة لبعض مطالب الكرد السوريين المحقة، مقابل انضواء قوات “قسد” تحت مظلة الجيش السوري الجديد كأفراد وليس ككتلة عسكرية واحدة، خصوصًا أن تركيا نفسها كانت قد فتحت ورشة حوار موسع مع خصومها من حزب “العمال” لطي صفحة الحرب.

وبالتالي فإن ما حصل في تركيا من وقائع وتطورات في مسار السلام مع قائد حزب “العمال”، سمع صداه في دمشق أيضًا، وأثمر اتفاقًا غاية في الأهمية بين السلطات السورية الجديدة وقيادة “قسد” انتصر فيه العقل على الجهل، والسلام على الدم. حل استجابت فيه السلطة السورية لبعض مطالب الكرد واستجاب الكرد لموجبات الحفاظ على سوريا ووحدتها الجغرافية، وتجنيبها مزيدًا من الصراعات.

وتقول روايتنا أيضًا في فصل من فصولها تحت عنوان “الحكمة”، إن دورًا بارزًا ونصائح في العمق قدمها الزعيم مسعود برزاني لقيادة “قسد” أسهمت إلى حد بعيد في تهيئة الفرصة لخلق إطار الحل الذي تبنته الأخيرة، وأعلنت عن ذلك رسميًا بعد أن هنأ مظلوم عبدي أحمد الشرع بتوليه رئاسة سوريا. وبالإضافة إلى تسليم ملف النفط لحكومة دمشق على أن تكون “قسد” جزءًا من شركاء السلطة الجديدة، خاصة في إدارة بعض الملفات في مناطقها، أعلنت عزمها إخراج المقاتلين الأجانب من صفوفها ومغادرتهم سوريا، وهو قرار إيجابي يسهم في تليين المواقف ويستجيب لهواجس تركيا المتعلقة بأمنها القومي، كما يسهل فرص نجاح مبادرة الحل على النسق التركي من الصراع.

يمكن القول إذًا، إن أنقرة تنفست ودمشق انتعشت، وإن مساحة أفق العمل على تأسيس الجمهورية الجديدة قد توسعت كثيرًا، وإن فرص خلق توافقات وطنية كبرى تتعلق بشكل الدولة ومحتوى الدستور وآلية إدارة السلطة ونطاق ممارستها صارت ممكنات وطنية، وصارت كل تلك الممكنات في ملعب السلطة السورية الجديدة التي عليها أن تدرك أنها لا يمكن أن تدير دولة كسوريا بنفس الطريقة والأفكار التي أدارت فيها مدينة من مدنها، وأن تكريس فكرة المواطنة وسيادة القانون هما ركيزتا سلامة الجمهورية الجديدة والحؤول دول تصدعها، وأن الفكر الجهادي لا مكان له في إدارة شؤون الدولة والناس، ويجب ألا تكون له فسحة في الفضاء العام أصلًا، وأن إصرار البعض عليه سيخلف وباء فكريًا وعقيديًا لا قبل للدولة السورية الجديدة بتحمل تبعاته وآثاره، وأن العبور إلى المستقبل يقتضي بالضرورة خلع عباءات الماضي الرثة والأخذ بأسباب النهوض الاقتصادي والمعرفي، وهو أكثر أهمية وجدوى من السعي لفرض ما يعتقده بعض هؤلاء “شرع الله” على الناس على عكس إرادة الله نفسه، الذي رفض الإكراه والاستحواذ على خيارات الناس وقرارهم الحر.

على السلطة الجديدة أن تتعلم درسًا من تجربة “قسد” أيضًا، وقرارها الإيجابي في الانخراط بالحياة السياسية تحت السقف السوري، وأن تجعل هذا السقف سقفًا لكل قراراتها وإجراءاتها المتعلقة في إدارة الدولة وشؤون الناس، فتأمين الخدمات الأساسية أكثر أهمية للإنسان من إصدار تعميم بعدم المجاهرة بالإفطار في رمضان.

ربما أجبرت الظروف الدولية “قسد” على التزام هذا الخيار، لكن ذلك لا يلغي صوابية قرارها وحسن قراءتها للمشهد الإقليمي والدولي، ومثل تلك السياسة أولى للسلطات السورية اتباعها، وأزعم أنها تفعل على الأقل ضمن مستواها القيادي الأول حتى الآن، وننتظر أن تتكرس نهجًا عامًا في مختلف مستويات السلطة التي يتعين أن تجعل مصالح الناس العليا نصب عينيها وهدف أعمالها، بدلًا من صرف الجهد في التبشير بدين يؤمن فيه الناس ويمارسونه منذ قرون سحيقة.

اليوم يمكننا القول إن العقل والحكمة في تفكيك صراع مفترض كان يمكن أن يستكمل دمار سوريا قد انتصرا، فانتصر السوريون جميعًا ووضعوا سوريا الجديدة على سكة الحلول التي تتيح لقطار الجمهورية الجديدة أن يقلع نحو المستقبل.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة