خطوات أولى في فهم عقلية النظام الجديد

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

حملت زيارة الرئيس أحمد الشرع للساحل السوري، خاصة لمدينة طرطوس، أهمية كبيرة، فهي أول لقاء مباشر بين الرئيس الجديد والمدينة التي عُرفت بتأييدها الشديد لعائلة الأسد (وإن كانت مكرهة) لدرجة لقبت بـ”أم الشهداء”، لكثرة عدد أبنائها الذين ضحوا بحياتهم من أجل بقاء تلك العائلة في السلطة، وكعادة القيادة الجديدة، تعمدت إيصال رسائل عديدة من خلال تلك الزيارة، بعضها لقي ترحيبًا شديدًا من أبناء الثورة، وبعضها رفض بشكل تام حد الاعتراض، وإن كان بشكل خجول، وبصوت خافت جدًا، مقارنة بأصوات معارضة أخرى كانت أكثر حدة، سمعناها في مدن أخرى.

وما زالت تداعيات تلك الزيارة تلقى نقاشات وحوارات متعددة بين أبناء تلك المدينة.

رسائل كثيرة ممكن أن نستخلصها من هذا الحدث، سأذكر منها ثلاثًا فقط، لأنها حاليًا الأكثر أهمية في اعتقادي، وتساعدنا على فهم أفضل لعقلية النظام.

الرسالة الأولى: الثقة بالنفس التي تتمتع بها هذه القيادة، وبقدرتها على حماية رأس الدولة، حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا، بلغت هذه الثقة أقصاها، بالاختلاط المباشر للرئيس مع الناس في الشارع، ثم بوقوفه على شرفة مبنى المحافظة بشكل مكشوف جدًا، ولم تكن هذه الصور مجرد استعراض مع حرس معروف مسبقًا، بل بمشاركة واقعية من أبناء الساحل، وبشكل عفوي حقيقة (هناك الكثير من أهلي وأصدقائي الذين قاموا ببث مباشر عبر التلفون)، وهي رسالة تطمينيه للداخل والخارج على قوة هذه القيادة الأمنية، ومراقبتها المحكمة للمجتمع، لكن بأسلوب حضاري وغير مباشر، فلو أن لديهم شكًا بسيطًا بهذه القدرات، لما ظهر الشرع بهذا الشكل وسط المدينة.

الرسالة الثانية: ديمقراطية هذا النظام، وقابليته للاستماع للنقد، حتى للنقد اللاذع، فقد نقلت لي مجريات هذا اللقاء، ومداخلات الكثيرين، الذين ركزوا في معظمها على المشكلات المعيشية وعلى انتهاكات النظام الجديد بحق بعض أبناء المدينة، وقد عبر بعض المشاركين عن وجهات نظر تختلف كثيرًا عن رؤية النظام الحالي في الكثير من القضايا، تحدثوا بكل حرية وصراحة، بمشهد لم نعتده سابقًا مع أي رئيس في المنطقة، سوى الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وحتى مع السادات، كان يغضب أحيانًا ويصرخ في البعض، كما فعل ذات مرة مع الطالب (وقتها) عبد المنعم أبو الفتوح، الذي خاض معه مشادة كلامية صارت مشهورة لاحقًا، لكن الفارق هنا أن الشرع لم يغضب كما كان يفعل السادات، وإنما حافظ على هدوئه وحديثه المرن، وعبر عما يعتقده بكل احترام ومودة للحاضرين.

الرسالة الثالثة: صراحة الشرع في تعبيره عن أفكاره بكل وضوح وشفافية، لدرجة المباشرة الشديدة أحيانًا، والتزامه اللاحق بكل ما طرحه من أفكار، فمنذ البداية كان يكرر على مسامعنا بأن الثورة انتهت، وحان وقت العمل بمنطق الدولة، وهو ما اعتبره البعض مجرد كلام دعائي، لكنه طبقه لاحقًا بشكل عملي في كل تصرفاته، بما فيها زيارته لطرطوس، فلم تعطِ القيادة أي أهمية للثوار السابقين، ولا لعائلات الشهداء والمعتقلين (كتب بعضهم احتجاجًا على ذلك)، وقد راعت اللجنة المختصة في دعوة الناس وجود أشخاص “براغماتيين”، من رجال دين وأعمال وناشطين في مجال المجتمع المدني، من له تأثير اجتماعي ووجود حقيقي على الأرض، بغض النظر عن موقفهم من النظام السابق، بل إن بعضهم كان مؤيدًا له، فلا مكان للشرعية الثورية أو الأخلاقية لدى القيادة الجديدة (هكذا بكل وضوح)، حتى المعارضون الذين تمت دعوتهم، كانت لأسباب عملية فقط، من أجل عدم قطع الصلة التامة معهم بالتحييد الكامل لهم، أي التعامل بمنطق سياسي بحت. وهذه ليست المرة الأولى التي يتكلم ويتعامل بها الشرع بشكل صريح، بل وفج أحيانًا، فقد سبق وصرح في أحد لقاءاته بأنه لن تنال العقوبة جميع المجرمين (هل هناك كلام مباشر أكثر من ذلك!) لأن تحقيق هذا الأمر سيزهق الكثير من الأرواح، وأنه قبل تسوية البعض حقنًا للدماء، وهو تصرف عدّه الكثيرون تجاوزًا لصلاحياته كرئيس مؤقت، لكنه كان يهدف حسب رؤيته إلى تجنيب البلاد خربة معزة أخرى، حينما حاولوا اعتقال اللواء محمد كنجو، فخاضوا معارك شرسة مع أزلامه، كلفت البلاد أرواحًا عديدة.

عبر الشرع عن رؤيته مرات عديدة بكل شفافية، ويبدو أن هذه الصراحة جزء أصيل من شخصيته، بما يذكرنا كثيرًا بشخصية حسن نصر الله، فقد كانت له تصريحات مماثلة (هل هي ناتجة عن تشابه في الخلفيات الإسلامية؟)، فلو عدنا لوثائق المخابرات السورية وما كتبته عنه خاصة وثائق فرع “فلسطين”، نجد أن لتلك الأجهزة معرفة سابقة بأهدافه كلها، وأنه عبر عن تلك الأهداف في عدة مناسبات بلا أي مواربة، وأنه عمل فعلًا طوال سنوات على مشروعه السياسي، الذي لم يكن سريًا أبدًا، بل إنه وعد الكثيرين من أتباعه في فترة حكمه لإدلب بدخول دمشق، ووصل ذلك إلى تحديد فترة زمنية تقريبية لهذا الدخول، حسب شهادة الكثيرين، أي أنه لم يخفِ أبدًا أهدافه منذ البداية، بل بتوقيتها أحيانًا.

هذا النوع من التركيبة النفسية، يجعل للفعل السياسي معها جانبًا مخيفًا جدًا وجانبًا مطمئنًا، الجانب المخيف أننا غالبًا ما نكون أمام شخصية استثنائية بكل معنى الكلمة، ذات ذكاء حاد وقدرات عقلية ونفسية أعلى مما نتخيل، لدرجة أن “الجولاني” كان قادرًا على خداع مخابرات الأسد، بل والسخرية منها على مدى سنوات متعددة، وبالتالي فإن معارضته لن تكون بالأمر السهل أبدًا، أما الجانب المطمئن، فأنه يمكن فهم هذه الشخصية جيدًا، توقع أفكاره ومشاريعه، وهو ملتزم بكل تلك المشاريع، صادق تمامًا بكل ما يقوله (على عكس بشار الأسد، الذي يصفه جميع من حوله بالكاذب) وبالتالي يمكننا تحديد موقفنا السياسي منه، وتحديد ما نريد عمله أيضًا من مواقف تأييد أو معارضة، وهذا ما سيرفع من سوية العمل السياسي في بلدنا، لكن إذا توفرت معارضة قادرة على العمل بهذه السوية، وهو ما أشك به حاليًا.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة