غزوان قرنفل
أما وقد تقادم النصر والانعتاق قليلًا، وزالت نشوة الانتصار، فإن السوريون يواجهون اليوم واقعًا صعبًا ومزريًا، واستحقاقات كبيرة وثقيلة ليس من اليسير عليهم وعلى السلطة الجديدة الاستجابة لها كما ينبغي أو كما يأمل السوريون عمومًا، وهي بصدق مسؤولية كبيرة جدًا لا نملك الكثير من الخيارات إزاءها إلا ربما الحاجة لتكاتف وتنظيم الجهود، عسى أن نتمكن جميعًا من أداء ما يجب علينا أداؤه والنهوض بمسؤولياتنا تجاهها.
اليوم 90% من السوريين، وخاصة المقيمين منهم داخل سوريا، لا يهتمون حقًا بمن يتولى شؤون الحكم والسلطة، ولا حتى بشكل الدولة ونمط الحكم بقدر ما هم مهتمون بقضايا توفير الدفء والكهرباء ولقمة الخبز وفرص العمل وتوفير الأمان والسلامة، وهم محقون في ذلك، لأن تلك المسائل على بساطتها اللفظية مسائل غاية في الأهمية لدوام العيش بالصيغة الآدمية في حدها الأدنى، فالسوري الذي دفع كل ذلك ثمنًا لخلاصه من سلطة الاستبداد ودفع معه استقراره وحياة مئات الآلاف من شبابه التي سفحت على مذبح حرية كل السوريين، يحق له الآن المطالبة باسترداد القليل مما أداه ليستعيد بشريته.
تلك الأشياء البسيطة التي يحتاج إليها ويطالب بها السوريون في الداخل اليوم هي جزء بسيط جدًا من استحقاقات الزمن السوري المقبل، فثمة تركة ثقيلة جدًا خلفتها سلطة العصابة التي حكمت ونهبت سوريا طوال عقود ولم تقدم لشعبها إلا الفقر والبطش والمهانة، وليس من اليسير أبدًا كنس كل هذا الركام وإعادة الحياة لطبيعتها قبل عقد أو حتى عقدين من الزمن إذا توفرت الأدوات وخلصت النيات.
ربما نلاحظ جميعًا أنك وبمجرد أن تنتقد اليوم إجراء أو قرارًا من قرارات السلطة الجديدة أو إجراءاتها فسرعان ما تتلقى هجومًا وانتقادًا شديدًا قاسيًا، وذلك في جزء كبير منه غير مرتبط بموقف مؤيد بالمطلق لتلك السلطة بما تمثله من توجه سياسي أو ديني أو غير ذلك، وإنما لأن الكثير من السوريين يعتقدون أنك تتشدق بما هو ليس في سلم أولوياتهم الآن، وأنك بتلك الانتقادات ربما تعطل أو تؤثر على عمل الحكومة والسلطة في محاولاتها الاستجابة لحاجات المجتمع الأساسية، فتكون القضايا التي تثيرها، من وجهة نظرهم، بمثابة حجر عثرة في طريق الحكومة يجعل خطواتها متعثرة ويؤخر استجابتها لاحتياجاتهم الملحة، بينما أنت ترفل في نعيم الدفء وتوفر كل أنواع الخدمات والأهم أنك تعيش آمنًا من الجوع والخوف.
أعتقد أن هؤلاء تحديدًا محقون نسبيًا في ذلك، لكنهم لا يستطيعون ربط طرفي المعادلة بين مطالبهم واحتياجاتهم في حدودها الدنيا من جهة، وبين ما تقوله أو تكتبه وهو بعيد في ظاهره عن مساحة همومهم من جهة أخرى، لكنه في باطنه يسعى لتعزيز فكرة بناء الدولة الخادمة والملبية لحاجات شعبها، والتي لا يمكن بحال أن تكون دولة معافاة اقتصاديًا ومقتدرة سياسيًا إلا إن ابتعدت عن العقائد والاصطفافات الدينية والمذهبية والعرقية، فالاستجابة والقدرة على توفير الأولى تقتضي بالضرورة الاستجابة للثانية أيضًا، فلا تستطيع الحكومة توفير فرص عمل أو رفع سقف المداخيل للناس أو حتى توفير الخدمات الأساسية لهم ما لم تكن لديها القدرة على الاستجابة لموجبات بناء الدولة وتنظيم ممارسة السلطة وتداولها والمشاركة فيها، وحسن استخدام الموارد الوطنية لمصلحة عموم السوريين.
اليوم نحن أمام استحقاقات وطنية بالمقام الأول، وهي بذات الوقت استحقاقات تتعلق في سبل خروج سوريا الدولة من إسار العقوبات الدولية وإعادة إدماجها ضمن المجتمع الدولي، وهذه الاستحقاقات تمت الإشارة إليها في خلاصات ثلاثة مؤتمرات دولية لأجل سوريا، في كل من العقبة الأردنية والرياض العاصمة السعودية وفي باريس العاصمة الفرنسية، ومؤداها أن تحقيق اختراق حقيقي وملموس في جدار العقوبات وكذلك في إعادة إدماج الدولة السورية ضمن المنظومة الدولية يقتضي وجود حكومة انتقالية ذات تمثيل وطني واسع، أو من التكنوقراط فحسب، وصدور إعلان دستوري يكسب شرعية للحكم الجديد وينظم ممارسة السلطة وتشاركيتها خلال المرحلة الانتقالية ويطوي مرحلة التفرد القائم الآن، وتشكيل لجنة وطنية لصياغة دستور دائم للبلاد… وكمدخل لكل ذلك لا بد من انعقاد مؤتمر وطني، تكون تلك القضايا على أجندة أعماله فضلًا عن قيام أعضائه المشاركين بانتخاب أو تعيين مجلس تشريعي مصغر ومؤقت، ليسهم بالوظيفة التشريعية في أضيق حدودها إن كان ذلك ضروريًا.
الفرصة الآن متاحة حقًا لفعل ذلك إذا ما خلصت النيات، باعتبار أنه تم الإعلان عن تشكيل لجنة تحضيرية لانعقاد المؤتمر الوطني المفترض أو حتى مؤتمر الحوار الوطني الذي يتعين أن تكون توصياته وقراراته ملزمة للسلطة التي هيأت لانعقاده، وأن تكون مخرجاته متسقة مع حاجات المرحلة التي أشرنا إليها حتى نتمكن جميعًا من تجاوز عتبات ألم المرحلة التي نعيشها الآن ونبدأ جميعًا ببناء الوطن السوري الذي يلبي احتياجات إيمان السوريين جميعًا كوطن نهائي لهم.
سأختم بالقول إننا نحن السوريين الآن قطعنا نصف المسافة نحو إمكانية بناء دولة ديمقراطية آمنة، يمارس فيها الناس حقوقهم وحرياتهم ويأمن فيها الناس على تلك الحقوق وعلى ممارسة الحياة والسياسة دون خوف ودون تنكيل، ولكن يجب أن نكون مدركين لمسألتين حتى لا نعود القهقرى.
الأولى أن المجتمع السوري اليوم يعيش 90% منه تحت خط الفقر بكثير، ولا يمكن نشوء وقيام نظام ديمقراطي إلى جانب الفقر والحاجة والعوز فالأمر لايستقيم أبدًا، والثانية أن القوى الممسكة الآن بتلابيب السلطة هي قوى مغرقة في سلفيتها وإسلامويتها وهي على الضد من فكرة الديمقراطية أو التداول السلمي للسلطة، بل هي ربما في حالة قطيعة حقيقية مع العصر والمستقبل، ومن الطبيعي أنه لا يؤمل من تلك القوى التي تعتقد أنها ظل لله ووكيل عنه في الأرض أن تتبنى خيارات بشرية في حين أنها تملك كما تعتقد خيارات إلهية أحق وأصوب… لذلك نحن مجبرون الآن على دعم عملية النهوض بالمجتمع وإخراجه من إسار الفقر والجوع، وأن نراهن على التمايزات والتحولات التي يمكن أن تحصل ضمن القيادة الحالية التي يتخذ مستواها الأول على الأقل خيارات وسياسات وخطابًا مغايرًا عن بقية المستويات ما يسهل ربما، أو كما نأمل، استيلاد فرصة جدية للتحول الديمقراطي.