حوار علني لسرديتين في طرطوس

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

تشهد طرطوس منذ انتصار الثورة حالة من الغليان، بالمعنى الإيجابي للكلمة، فقد عادت الحياة السياسية لهذه المدينة بعد عقود من الصمت والرضوخ التام لعائلة الأسد، واقتصار دورها على إمداد هذه العائلة المجرمة بالشباب ليكونوا وقود حرب.

منذ سقوط الحكم، تشهد المدينة الكثير من اللقاءات والمباحثات لتشكيل تيارات وأحزاب سياسية (تشكل حزب سياسي جديد مؤخرًا) بالتوازي مع احتفالات ووقفات احتجاجية بشكل شبه يومي، تطورت آخرها إلى تلاسن لفظي، وربما محاولة للتهجم، في أولى حالات التواصل الجدي والصريح بين أطراف المدينة، انتهت هذه الحادثة بجلسة صلح بين جميع الأطراف (رفضها بعضهم لرغبتهم في متابعة قضائية للحادثة).

للإضاءة أكثر على تلك المجريات، ولفهم أعمق لدوافعها، سأبدأ أولًا بسرد لقطتين من تلك الأحداث، الأولى كنت شاهدًا عليها في أثناء وجودي بالمدينة، والثانية حدثت في أثناء الوقفة الأخيرة، ونقلها لي أناس أثق بهم، ثم سنحلل بعدها العوامل التي أوصلت الحالة إلى ما نحن عليه.

اللقطة الأولى حصلت في أثناء وقفة دعت إليها مجموعة من أمهات الجنود في الجيش السابق، والمعتقلين لدى السلطة الحالية، جرت أمام قصر المحافظ، استوقفت هذه المظاهرة بعض المارة في المدينة، الذين استفزهم وجود احتجاج على “الهيئة”، وبدأ الطرفان بخوض حوارات ساخنة فيما بينهم، لكن ما لفت نظري أنه حين استرجع أحد الناس قصة بعض أهالي بانياس الذين أحرقهم الجيش في بيوتهم، ردت عليه إحدى أمهات المعتقلين: “ابني ليس له علاقة، ابني كان عنصرًا في جيش الوطن”. على كل انتهت هذه الوقفة بشكل راقٍ جدًا دعا فيها المحافظ جميع الأمهات للحوار معه في إحدى صالات مبنى المحافظة، وسمح لجميع وسائل الإعلام وقتها بالدخول والتصوير.

اللقطة الثانية، حدثت الأسبوع الماضي في نفس المكان، فقد نظمت مجموعة من الفعاليات السياسية والمدنية في المدينة وقفة احتجاجية، بمطالب مختلفة، مثل الاعتراض على تسريح الموظفين، أو تأخر الرواتب، والمطالبة بسرعة تحقيق العدالة الانتقالية، وتعمدت مجموعات أخرى من أبناء المدينة القيام بوقفة مؤيدة لـ”الهيئة” أيضًا أمام المبنى ذاته. حصل شجار لفظي بين المجموعتين حين قام أحد الأشخاص المؤيدين للهيئة بترديد شعار: “قائدنا للأبد سيدنا محمد”، فرد عليه آخر: “أنتم ارهابيون مثل قادتكم”، وقيل إن أحدهم هجم على بعض المتظاهرين وحاول تمزيق بعض لافتاتهم. لم يحدث ضرب أو أذية جسدية حسب علمي، لكن يبدو أنه حدثت محاولة الاعتداء على كاميرا، أو منع تصوير، وتناقلت كالعادة “السوشال ميديا” الكثير من الإشاعات، وكالعادة أيضًا حاول البعض استغلال هذه الحادثة للظهور بمظهر البطل، أو الضحية أحيانًا، وبدأنا نرى شلالات من الاتهامات والتبريرات، وتسجيلات مصورة يحاول كل طرف شرح القصة وفق وجهة نظره.

تعكس هاتان الحادثتان مشكلات أعمق من مجرد تلاسن بالكلمات، أولاها وأهمها هي حالة الانقسام الحاد في الموقف من الحكم الجديد.

فمنذ لحظة دخول سيارات “الهيئة” إلى المدينة صباح 8 من كانون الأول 2024، استقبلها البعض بالكثير من الترحاب، مع إضفاء هالة من القداسة والتبجيل على شبابها، بصفتهم أبطالًا استطاعوا الانتصار على أعتى الأنظمة الدكتاتورية، وخاصة أنه نصر جاء بعد سنوات من فقدان الأمل بأي تغيير، واستفحال همجية عائلة الأسد في المدينة، وصل لدرجة إرسالهم أوامر إخلاء لعدة بيوت في طرطوس القديمة، فقط لأن زوجة الأسد ترغب في بناء “مول” تجاري في تلك البقعة، دون أي مراعاة لمشاعر ساكني تلك البيوت، فجاء دخول مقاتلي “الهيئة” كفاتحين ومحررين لأبناء المدينة من سلطة الأسد الإجرامية.

بينما حمل البعض الآخر مشاعر كره وحقد لهذه السلطة، لأنها انتزعت القوة من أيدي الطائفة (حسب قناعتهم طبعًا)، وبالتالي مهما فعلت هذه القوات، فلن تواجه إلا بالرفض من هذه المجموعة، حتى لو حولت الساحل إلى جنة (حسب تعبير أحد أبناء الطائفة)، مشكلة هذه المجموعات أنها لم تتعود التعامل مع البقية (حتى من أبناء طائفتها) إلا من مبدأ سلطوي، وهنا نتحدث عن مجموعة صغيرة من الطائفة المحتكرة للقوة (وليس بالضرورة للمال) منذ سنوات.

وبين هاتين المجموعتين، أناس لا يحملون أي مشاعر متطرفة، حاولوا التأقلم سابقًا مع نظام الأسد، ويحاولون حاليًا التأقلم مع النظام الجديد، أفرح معظمهم سقوط الأسد، لكنهم لا يشاركون البقية حالة التقديس تلك للسلطة الجديدة، ولديهم تخوفاتهم واعتراضاتهم على بعض تصرفاتها.

المشكلة الثانية، هي ضعف التواصل سابقًا بين سكان المدينة، وحمل كل مجموعة سردية مختلفة عن التاريخ السوري في حقبة الأسد، وتاريخ الساحل خاصة، فهناك مجموعة ترى في الجيش السوري مجرد ميليشيا إجرامية، هدمت سابقًا حماة وحلب، وارتكبت الكثير من المجازر منذ الثمانينيات وصولًا لأحداث الثورة السورية التي دمرت السلطة خلالها الكثير من المدن، وما زالت مجازر البيضا التي وقعت في بانياس عالقة في ذاكرة أهالي المدينة، تلك التي استذكرها الرجل أمامي في أثناء الوقفة الأولى، بينما ترى مجموعة أخرى في أحداث حماة رئيسًا عبقريًا استطاع حفظ البلاد من حكم الإرهابيين، التي ورثت “جبهة النصرة” هذا اللقب منهم (كما عبر عن ذلك أحد المحتجين في الوقفة الثانية)، وتحمل هذه المجموعة حالة من القدسية للجيش الأسدي (جيش الوطن حسب قول تلك السيدة).

إذًا، هناك تفاوت كبير في المرجعيات الفكرية والنظرة للتاريخ والأحداث، ولمعاني الكلمات ووقعها النفسي على كل شخص. مشكلة عمرها عشرات السنين، لم يسبق وأن خاض المجتمع السوري خاصة في الساحل نقاشًا جديًا لنقد تلك المرحلة، بل كل طرف يحمل “كليشيهات” جاهزة من التصورات، نتيجة انعدام الحوار الحقيقي بين الناس.

رؤيتان متناقضتان للواقع والماضي، لم يسبق أن جرى أي حوار حقيقي حولهما، يمكننا القول إن ما يحدث في تلك الوقفات والوقفات المضادة، أحد أشكال الحوار واطلاع كل طرف على سرديات الطرف الآخر، مما قد يساعد في المستقبل على معرفة كل طرف للآخر بشكل أفضل.

ووقتها، ربما نكون قد أصبحنا جاهزين نفسيًا على الأقل، للسير في خطى العدالة الانتقالية، ورضا الأطراف كلهم بها.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة