حنين النقري – دوما
على الرغم من أن زاويتي في الجريدة مخصصة لجوانب غير ذاتية، تناقش قضايا متعلقة بفكر الثورة بأسلوبٍ خطابي، إلا أن تجربة العودة إلى دوما، مدينتي المحررة، ومشاهداتي فيها، حثّتني على تجاوز كل قاعدة.. لمشاركتكم بعض ما رأيت..
أول ما يلفت نظرك بعد تجاوز حواجز شبيحة النظام في طريقك إلى دوما، وبداية حواجز الجيش الحر، الفارق بين نوعي الحواجز، بين ابتسامة يلقاك بها جنود الحر ودعوات بالسلامة والحماية، وبين كلمة باردة يقابلك بها شبيحة النظام، شماتة بك، محاولة لاستفزازك، «قلتم له إرحل، فرحلتم!!»
متجاوزًا أنقاضًا كانت بيوتًا، تلمح أول بوادر الحياة في مدينتك، بأطفال يلعبون في الشارع، غير آبهين بكل ما حولهم، سوى كرة يتراكضون وراءها بشغف..
وأمام الأبنية المدمّرة –تلك التي كانت عامرة بمن فيها–، ستجد البسطات البسيطة، تبيع مستلزمات الحياة، بتواضع من أصحابها؛ أولئك الذين كان لكل منهم محلًا ومكانًا في السوق يعرف به، فرفضوا أن يفقدوا مكانتهم بفقدهم أمكنتهم والسوق معًا، وآثروا أن يقدموا لمدينتهم خدمات يستطيعون أدائها..
الشيء الذي سيلفت نظرك، لا بد، هو نظافة الشوارع!! من الصعب أن أشرح الأمر، لكن نظافة الأرض والطرق السالكة، لا توحي أبدًا بحجم الدمار على جانبي أي شارع، بسبب العمل المنظم والدؤوب بإزالة أنقاض أي بناء يُدمّر وتجميعها لإعادة فتح الطرق المسدودة بأقصى سرعة!
ولعلّك ستشاهد عمّال بلدية دوما المحررة، بإدارتها الجديدة، وهم يحاولون تمديد شبكة كهرباء جديدة مكان خطوط الكهرباء التي دمرت كليًا بسبب القصف، فغابت الكهرباء النظامية عن دوما منذ ما يزيد عن الشهرين، وما غابت الحياة عنها بغيابها!
فحيث مشيت، ستسمع أصوات مولدات الكهرباء، البديل المنتشر بكل حاراتها، بشكل تعاوني ورائع بين الجيران، وبرضا بساعات قليلة مع التيار الكهربائي المولّد ذاتيًا، لتدبير شؤون المنازل، وضخ المياه من الآبار، بسبب انقطاع المياه منذ شهور أيضًا، أو عبر صهاريج مياه تقدم المياه مجانًا للبيوت، يشرف عليها من تطوعوا لإعمار مدينتنا المحررة..
عمل منظم، تشرف عليه لجان تطوعية من أبناء دوما، تعمل كخلية نحل ليل نهار لتجاوز كل ضرر يلحقه النظام بالمدينة، كتعويض الأسر التي تضررت بيوتها وإيوائها ببيوت أخرى، لتكرمها، وتغنيها عن ذل السؤال أو النزوح..
وللشكوى هنا لجان أيضًا، حيث يغدو الحصار الاقتصادي حجّة للاستغلال المادي ورفع أسعار السلع، فتحتاج لمن يراقب ويستمع لشكواك، ويردع المستغل، ولعلّ هذا الأمر سبب للأسعار المعقولة والتي تنافس جميع المناطق غير المحاصرة حتى!!
أما عن التعليم، الذي توقفت مسيرته مذ كانت مدينتنا محتلة من قبل قوات الأسد، فقد عاد رغم القصف، لا في مدارس الأسد، تلك التي دمرها النظام نفسه، بل في مراكز تعليمية منتشرة في أنحاء المدينة، تنشر علمًا ووعيًا بين أطفالها، ولا تطلب منهم أن يسبحوا ويمجدوا بحمد ظالمهم عبر تدريسهم مناهج تؤلهه، ككتب التربية القومية الأسدية. وللمراكز دور ترفيهي أيضًا، ببرامج ترفيهية عديدة للترويح عن نفوس الأطفال لقاء ما شاهدوه وعانوه من لحظات رعب وخوف..
وللناحية التثقيفية نصيب حرّ هنا، الجرائد والصحف والمجلات الحرة مثل «المجاهد، رواد الهدى، نداء الإسلام، الرواد..» وغيرها كثير من مجلات تثقيفية توعوية، تُكتب وتُطبع وتُنشر في المدينة ذاتها، بمضمون ثقافي واع، وبإخراج فنّي مميز..
وليست المجلات والصحف هي المنبع الوحيد للثقافة، فثمة دورات وندوات كثيرة تهدف لتوعية المجتمع تجاه مفاهيم مهمّة، كالحرية والدولة المدنية، وإدارة الفرق التطوعية وغيرها..
ولا أدري حقًا، إن كان سيتاح لك رؤية العجب الذي رأيت، بتحويل صاروخ أسدي لم ينفجر –بعد تفريغه من محتوياته المتفجرة– إلى هيكل دراجة نارية يقودها صاحبها بفخر، متخذًا الصاروخ مجلسًا لدراجته، تلك التي يتحدّى بها نظامًا أرسل له سبل موت، فحوّلها لسبيل حياة!
للجميع هنا عمل، الجميع هنا يعمل، بأعمال إغاثية تطوعية إسعافية تعليمية ثقافية خدمية ترفيهية وفنية، ما يسعدني في هذا، هو النموذج المصغر لإدارتنا ﻷمور بلادنا بعد الأسد، للإمكانيات المتواضعة تتكاثر بإرادة أهلها لتصبح أدوات إعمار وحياة…
لعل كلامي كله لا ينفي صعوبة الوضع المعيشي تحت القصف اليومي، بالطائرات والبراميل المتفجرة والهاون والصواريخ، بنقمة كبيرة على المدينة وأهلها، فيأوي كلّ إلى ملجئه وبقايا منزله، حتى انتهاء الغارة، ليلملم الأنقاض، ويشيّع الشهداء، ويعاود مسيرة الحياة، في مدينة تعشق الحياة، وتصنعها، حتى من صواريخ الموت!