جريدة عنب بلدي – العدد 56 – الأحد – 17-3-2013
إلى الشهيدين طارق الأسود وأنس الطرشة في ذكرى رحيليهما الاولى
أحمد عيساوي
في 24 شباط/فبراير الفائت مرّت الذكرى الأولى لاستشهاد أنس الطرشة (مصوّر حي الملعب الحمصي وأحد مسؤولي المكتب الإعلامي لمدينة حمص) وصديقه طارق الأسود، منشد الحي وأحد أبرز وجوه الحراك الشبابي السلمي في المدينة التي غدت مركزًا للثورة مع تسارع أحداثها الأولى.
أنس الطرشة:
الصورة بوصفها أيقونة قصصية تتحدى المجزرة
شاب ينقر على زر التسجيل، يقابله في الطرف الآخر عسكري يضغط على الزناد. مشهد يختصر السباق الذي تعيشه سوريا منذ سنتين، السباق بين السعي الى كسب الحرية ولحظة وقوع المجزرة، وهو نفسه المضمار التماثلي الذي لزّم مفردة الحرية للحقل الصوري. يخرج الناشطون السوريون صورًا ومقاطع فيديو يبثونها على «يوتيوب» توثّق الشريط الماثل في كادر يربط ما يحكى عن اعتقالات وتعذيب ومجازر بما تسجّله عدسة الكاميرا.
كان أنس الطرشة أحد هؤلاء، لا ينفك عن مواكبة الحدث من الحدث لينقل الصورة الى المتلقي وكان أنس مثابرًا على حضور النشاطات الميدانية للثورة من احتفاليات إلى مسائيات النصرة للمدن المحاصرة إلى أيام الجمعة التي كانت تشكل التحدي الأكبر له ولغيره من المصورين.
لا يمكن القول أنّ الكاميرا هي مجرد ناقل للصورة ولا يمكن اختصار دورها بأداء التجربة الحقيقية لفكرة البث الوقائعي، أصبحت الصورة السلاح الأقوى بيد الثورة لأنها رفّعت الدم من مكنون عدميّ إلى دليل حسيّ يحيي إحداثيات الموت ويقولب المجزرة وفق معطيات لا تحتمل التشويه. تمر الصورة الملتقطة في عملية طويلة ومعقّدة لتصل إلى شبكة المتلقي، من لحظة التقاطها إلى تنزيلها على الإنترنت وعرضها على صفحات الثورة، وغدت اللحظة التي يبث فيها الناشطون مقطعًا مصوّرًا مفصلًا حقيقيًا في طبيعة المعركة القائمة بين طرفي الشعب والنظام، بين الحرية والمجزرة لأنّ العرض توثيق يكذّب ادعاءات النظام ويدعّم فكرة القتل الممنهج الذي يقوننه النظام في بقع جغرافية لا يتوانى فيها المصورون عن خوض المواجهة وكسب الرهان.
أنس الطرشة التقط صورة ورصاصة، استشهد في القصف الوحشي على حي جورة الشياح ليل 24 شباط/فبراير من العام الفائت وهو الذي كان يوثّق أعراس الشهادة، كان محمولًا على الأكف في حي الملعب ليصبح صورة مغبشة ملتقطة في شريط الثورة المستمر.
طارق الأسود:
لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم
بلكنته الحمصية الجميلة وصوتها العذب الدافئ كان طارق الأسود يقود المظاهرات في حي الملعب الحمصي، وكان يتنقل من الخالدية الى القصور فبابا عمرو ليرافق عبد الباسط الساروت حينًا، والشهيد محمد الشيخ حينا آخر.
في شريط على يوتيوب يظهر أبو زياد كما يناديه أصدقاؤه، الواثق بانتصار الثورة دائمًا، ترتسم على محياه ابتسامة بريئة، جالسا مع بعض المحيطين في بيت في أحد الأحياء الحمصية، ثم يبدأ بالغناء وكأنه في قلب مظاهرة في الخالدية أو الملعب.
الهتاف بوصفه تجسيدًا لحالة الرفض أو الاحتجاج على سائد معيّن، يتجاوز مرحلة الكبح التي فرضها النظام على مدى عقود أربعة ليؤسس لحالة تبدأ فردانية بجرأتها وقدرتها على كسر طوق الصمت المفروض، لتشمل جمعًا من الناس يهتفون وينشدون ويغنون في الساحات.
مع تزايد حملات البطش المسعورة من القوات النظامية كانت الحنجرة الحمصية تسجّل تقشّفًا في أوتارها الصوتية وكان المنشدون يتعرضون لملاحقات واعتقالات وتهديد يطال أمن عائلاتهم حتى يصل إلى التصفية الجسدية.
إلى جانب الصورة/الحدث كانت الحنجرة تجربة خلق تتضافر فيها البلاغة الكلامية وطبيعة الصوت وقوته وقدرته على التأثير في من يسمع ليتفاعل إيجابًا أو سلبًا. وكان الإنشاد الغنائي رصيدًا يضاف إلى الثورة بسلميتها وحراكها الشبابي لا سيما في الاعتصامات المفتوحة.
سجّل الهتاف السوري في زمن الثورة حالة إعجاب حتى عند رافضي الثورة، وكان طارق الأسود واحدًا من المبدعين في حرف الهتاف عن دور الطبيعي كأداة لتوجيه الخطاب أو تفصيل النص إلى وسيلة لاستنهاض الشارع الحمصي في مناسبات عدة. في تشييع الشهداء كانت حنجرة طارق ترثي وتزف وتوجّه التحية للأمهات وفي مسائيات النصرة كان طارق «يرفع أصابع النصر فوق القصر» في «جنته الوطن السوري».
كانت الحنجرة الحمصية جريانًا منظمًا في فضاء لا وجود فيه لمنطق الأبد، وكان الصوت الطالع منها امتدادًا لحكم الانعتاق المشتاق إلى المنسيّ والممنوع في نشوة الفرح المنساب رقصًا وغناء في الساحات.
في انتظار الحلم..
قدّم الشهيدان أنس الطرشة وطارق الأسود مثالًا حيًا على جسارة السوريين وسعيهم الدائم لتحقيق أحلامهم بالحرية والكرامة في وطن حر من سلطة الفساد والاستبداد. وكانت الأحلام تتّسع بقدر ما كانت العدسة تلتقط مشهدًا وبقدر ما كان الهتاف يعلو من شارع حمصيّ محاصر.
اليوم، فيما حمص تحاصر وتستشهد كل يوم، تمر ذكرى أنس وطارق في ظروف هي الأقسى والأقدر على الاستنجاد بعين وحنجرة كانتا صونًا لحمص ولأهلها الطيبين.