![عودة الأهالي إلى مدينة مورك في حماة بعد سقوط النظام - 22 من كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)](https://cdn.enabbaladi.net/arabic/wp-content/uploads/2024/12/The-city-of-Hama-Morek-1.jpg)
عودة الأهالي إلى مدينة مورك في حماة بعد سقوط النظام - 22 من كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)
عودة الأهالي إلى مدينة مورك في حماة بعد سقوط النظام - 22 من كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)
عنب بلدي – غزل سلات
بحقائب صغيرة تحمل بعضًا من ذكريات مضت، وخطوات مترددة على طرق لم تعد كما كانت، عاد كثير من السوريين من بلاد اللجوء والمنفى لزيارة ما تبقى لهم من بيوتهم.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلات مصورة وصور توثق لحظات لعائدين يقفون على أنقاض بيوتهم المدمرة، بعضهم عاد على أمل إعادة البناء، وآخرون فقط لرؤية ما تبقى، لكن جميعهم يشترك في مشهد الخراب الذي لا يشبه ذكرياتهم عن المكان.
وبالرغم من الخراب الذي لحق بمنازلهم، لم تفقد زيارة السوريين لأطلال بيوتهم ارتباطهم بتلك الأماكن، بل أحيت في قلوبهم شعورًا قويا بالانتماء، بحسب ما قاله بعضهم لعنب بلدي.
رسمت الصور الجوية والتقارير الإخبارية تصورًا عامًا لدى السوريين عن حجم الدمار الذي خلّفه النظام السوري السابق، إلا أن الحقيقة التي يصادفونها في رحلاتهم إلى أطلال مدنهم وبيوتهم تبقى أكثر قسوة.
فالمباني المهدّمة ليست مجرد أنقاض صامتة، بل تحمل بين جدرانها المتهالكة بقايا حيوات لم تكتمل، وأبوابًا مشرعة على ذاكرة أصحابها.
قبل أكثر من عقد من الزمن وتحديدًا في 19 كانون الأول عام 2012، اضطر الشاب عبد الوهاب عميرة من حي جوبر الدمشقي إلى مغادرة سوريا.
ويروي عبد الوهاب، لعنب بلدي، أن مغادرته مع عائلته سوريا آنذاك لم تكن قرارًا طوعيًا، بل هروبًا من الاعتقالات والقصف العنيف الذي طال حيه ومدرسة إخوته.
عبد الوهاب الذي كُرم كأصغر مخترع سوري عام 2011، ثم اعتقل بدلًا من أن يُحتفى به، كان قد فقد الأمل بالعودة إلى سوريا قبل شهر من سقوط النظام وقال، “تلاشى أمل العودة بالنسبة لي وصرت أفكر أنه ربما من الممكن أن يعود أحفادي إلى دمشق يومًا ما”.
“لكن ما حدث كان من أروع الأحاسيس غير المفهومة”، وصف عبد الوهاب مشاعره عند وصوله إلى أطلال منزله.
وأضاف، “تملكتني رهبة ودهشة أمام حجم الدمار، مزيج بين الخوف والشجاعة، بين الفرح والحزن، أعجز عن وصف مشاعري، لكن أظنها كانت واضحة في عيني آنذاك”.
عند وصوله وجد عبد الوهاب شجرة “الكوشوك” القديمة التي زرعها جده منذ سنوات، ما زالت قائمة، إلى جانب ياسمينة جدته، التي نمت وسط ركام بناء مكون من خمسة طوابق، وقال، “رغم أن ياسمين الشام لا يزهر عادة في كانون الأول، فإنني تعرفت على المكان من رائحة الياسمين، وكأن الشجرتين خرجتا لاستقبالنا من تحت الردم.”
على غرار عبد الوهاب، كانت الشابة تمام عنكير واحدة من أولئك الذين قرروا زيارة منازلهم عقب سنوات من الغياب القسري، بعد أن غادرت برفقة عائلتها إلى تركيا هربًا من القصف الذي طال مدينتها الهبيط بريف إدلب.
“كنت أتوقع أن أرى منزلي بهذه الحالة، لكن فاضت عيناي للوهلة الأولى، فمشاهد الدمار بدت كأنها ساحة حرب مأخوذة من الأفلام”، قالت تمام لعنب بلدي.
كانت زيارة سوريا بمثابة حلم لرانيا المعمار أيضًا، التي قررت فور سقوط النظام زيارة مدينتها معرة النعمان في ريف إدلب، لرؤية عائلتها بعد سنوات من الفراق، وقالت “لم أتوقع العودة وكانت فرحتي كبيرة، لكن حجم الدمار الذي رأيته سبب لي شيئًا من الإحباط”.
وتساءلت، “كيف لإنسان عاقل أن يقتل شعبه ويدمر بلدًا كاملًا بهذه الطريقة؟”.
عند وصولهم، يواجه السوريون واقعًا يختلف من شخص لآخر، فبينما يسترجع بعضهم ذكرياتهم في الأزقة والشوارع، يجد آخرون أنفسهم أمام بقايا تفاصيل كانت تزين منازلهم تحت ركام الحطام، في حين لم يعثر بعضهم سوى على الفراغ الذي خلفته السنوات.
مشاهد الدمار لم تمنع رانيا المعمار من استرجاع ذكرياتها في المدينة، وقالت، “بمجرد دخولي مدينتي، بدأت ذكريات الماضي تتدفق في ذهني، شوارعها، بيوتها، أسواقها… كنت أتجول بين أحيائها وأستعيد التفاصيل، هنا كان منزل فلان، وهنا دكان جارنا، وهنا بيت أقاربي”.
أما تمام عنكير فقد استحضرت “جمعات” نهاية الأسبوع في بيت جدها، حيث كانت تمضيها مع أعمامها وعماتها، يتنافسون في مباريات كرة القدم والمضرب، ويقيمون حفلات الشواء، وكان الدفء والأمان يملأ الأجواء في تلك الأيام.
تمام التي كانت تأمل أن تجد شيئًا من الماضي مخبأ بين الأنقاض قالت، “لم أتمكن من العثور على أي من ممتلكاتي القديمة، وللأسف، حتى ألبوم الصور الذي كنت قد دفنته في مكان حصين قبل مغادرتنا، لم أتمكن من إيجاده”.
وبين أكوام الردم في مكان غرفته، بحث عبد الوهاب عميرة بيديه عن آثار ماضيه، ليجد بعض ذكرياته مدفونة تحت الحطام، وقال، “عثرت على أجزاء من زبادي المالئي التي كانت تخص أمي، مرحى لأختي، ودفتر كنت أرسم عليه في طفولتي، وأجزاء محروقة من صور للعائلة، بالإضافة إلى دفتر قديم يعود لجدي، كانت العائلة تحفظ فيه ذكرياتها”.
وأضاف، “كلما حملت حجرًا، كانت تخرج منه ذكرى.”
رغم أن كثيرًا من السوريين الذي غادروا بلادهم في سن صغيرة ظنوا أن السنوات والمسافات قد انتزعت منهم انتماءهم لمدنهم وبيوتهم، فإن هذه الزيارة تبين لهم عكس ذلك.
“كنت أشعر أنني لن أجد أحدًا، وكان يخيل إليّ أن لا أحد سيتعرف عليّ، لكنني لم أعبر طريقًا في سوريا إلا واستقبلني الناس بالسلام والعناق”، قال عبد الوهاب.
وأضاف، “أتمنى ان أعود للعيش هنا، فلم أجد سعادة في الحياة والجيرة والمعيشة تضاهي السعادة التي كنت أشعر بها عندما كنت أعيش في هذا الحي وهذه الحارة”.
ويظن عبد الوهاب كما هو حال معظم أهالي حي جوبر، وفق قوله، أنه ينبغي له في كل مرة يدخل فيها إلى جوبر أن “يخلع حذاءه احترامًا لدماء الشهداء”.
وتابع، “لا شيء في حياتي يمنحني شعور الفخر الذي يمنحني إياه انتمائي لهذه الأرض”.
أما الأمر الذي جعل تمام يشعر بالانتماء والطمأنينة، هو أن أصدقاء الطفولة وأقاربها كانوا كما عهدتهم، بل ألطف وأكرم.
وعبرت عن أملها في العودة إلى سوريا يومًا ما، مؤكدة أنها عندما عادت شعرت أن لا ملاذ أأمن من وطنها، فالوطن هو المكان الذي تجد فيه الراحة والأمان، وتستطيع اللجوء إليه عندما تضيق السبل.
ولم تكن العودة إلى سوريا بعد سنوات من الغياب مجرد رحلة عابرة للذكريات، فبين الأزقة التي حفظت خطواتهم الأولى وجد الزائرون أنفسهم أمام وطن تغيرت ملامحه، لكنه لم يفقد حضوره في قلوبهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى