مهرجون.. لا أكثر

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

في ختام أحد الاجتماعات الأولى لغرفة المجتمع المدني في جنيف قبل سنوات، وكنت واحدًا من المشاركين فيها، أُبلغنا أن السيد دي مستورا سيعقد معنا في ختام عملنا باليوم الأخير لاجتماعاتنا، لقاء يطّلع فيه منّا على مخرجات عملنا ويسمع آراءنا ويجيب عما يتيح له وقته سماعه من الأسئلة عن قضيتنا وما يقوم به بشأنها. وبالفعل تم اللقاء واستمع بإنصات إلى مداخلات المشاركين، وقام بتدوين بعض ما يعتقد ضرورة تدوينه في دفتر ملاحظاته بعد أن وضع نظارته الصغيرة فوق أرنبة أنفه، باعتبار أنها بلا ساعدين لتعليقها على الأذنين، وعندما جاء دوري بالتعليق والسؤال اقتضبت القول إنه “إذا كانت الأمم المتحدة ما زالت عاجزة عن إدخال المساعدات الإنسانية للمناطق التي يصعب الوصول إليها، أي المحاصرة وهي كلمة غير محببة لديهم، رغم وجود قرار أممي بذلك ما اضطركم لإسقاط المعونات بالمظلات جوًا فوق دير الزور، بينما لم تفعلوها في مناطق الغوطة وأرياف دمشق لا أدري لماذا، فكيف ستتمكنون من صناعة حل سياسي يقبله النظام ويلبي مطالب السوريين بآن واحد؟”.

“نحن خرجنا بثورة نريد تغيير النظام الحاكم، لكن يبدو أن المجتمع الدولي، وقد بلغ عدد اللاجئين السوريين خارج بلدهم أكثر من سبعة ملايين لاجئ، يعتقد أن الأسهل هو تغيير الشعب السوري واستبداله بدلًا من تغيير الرئيس ونظامه”. حدجني المبعوث بنظرة من فوق نظارته الصغيرة ثم استرسل في الرد على مجمل الأسئلة دون أن أحصل على رد يفحمني بين تلك الردود، فأدركت أنها هي تلك الحقيقة التي ربما لا يؤيدها لكنه يدركها ويدرك عجزه إزاءها.

مناسبة القول اليوم أن ثمة رجلًا معتوهًا ووقحًا في البيت الأبيض يتصرف كقاطع طريق ويسعى لتكرار المشهد والسيناريو مع الفلسطينيين من أبناء غزة، ويطرح فكرة إفراغ غزة من سكانها كليًا وإرسالهم لاجئين إلى مصر والأردن لإسعاد إسرائيل وتخفيف صداع قادتها، والتغطية على جريمة الإبادة الجماعية والتدمير الشامل لكل البنى التي يسميها القانون الإنساني الدولي “أعيانًا محمية” كالمستشفيات والمدارس وغيرها من تلك التي توفر شروط العيش الآدمي بحدوده الدنيا، ويصفها بأنها جرائم حرب، ولا تزال الأمم المتحدة صامتة مرتبكة وعاجزة إزاء هذا الهراء.

وها هو اليوم بكل صفاقة يطرح مشروع قانون على الكونجرس لحظر استخدام مصطلح “الضفة الغربية” في الوثائق الحكومية الأمريكية، واستبداله بمصطلح “يهودا والسامرة”، وهو الاسم التوراتي لتلك المنطقة، بهدف تعزيز ودعم المزاعم الصهيونية بالسيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، أي بسيادتها على كامل الأراضي الفلسطينية دون أي اعتبار حتى للقرارات الأممية رقم 181 لعام 1947 و194 لعام 1948 و242 لعام 1967 و452 لعام 1979 و476 لعام 1980 و608 لعام 1988، وهذا الأخير تحديدًا هو من القرارات التي صوتت الولايات المتحدة الأمريكية لمصلحته، والذي يطالب إسرائيل بالكف عن ترحيل الفلسطينيين خارج أراضيهم، بينما تقر القرارات الأخرى بحق الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة عام 1967 وبرفض قوننة كل ما تتخذه إسرائيل من إجراءات على تلك الأراضي.

هل ثمة جريمة أكثر عنفًا وقذارة من جريمة اقتلاع شعب من أرضه وإلقائه خارج حدود وطنه رغم كل تلك القرارات الأممية، ومثلها وأضعاف عددها لا تزال حبيسة المصنفات التي يعلوها الغبار على رفوف أرشيف الأمم المتحدة.

أي عار يتلبس البشرية التي لا تزال عاجزة أو متعاجزة عن نصرة مليوني إنسان في غزة، مورست ضدهم حرب إبادة علنية طوال أكثر من عام، ويريدون الآن إخراجهم من أرضهم فقط لكي لا يشعر الصهاينة الذين يغتصبون أراضيهم وينتهكون حقوقهم بالقلق!

وضيع هذا العالم كثيرًا عندما يروّج لنا ويتاجر معنا ببضاعة حقوق الإنسان، لكنه يبقى صامتًا إزاء انتهاكها على يد طاغية معتوه أفنى حياة مليونين من شعبه، طالما أن بقاء هذا الطاغية يلبي مطالبه ومصالحه.

وضيع هذا العالم عندما يكون فيه زعيم لأقوى دولة في العالم مجرد قاطع طريق يعمل على سلب البانميّون قناتهم لأن دولته تحتاج إليها! ويحاول سلب الدنماركيين جزيرة تابعة لهم لأنه يعتقد بأحقيته في السيطرة عليها كون بلاده تحتاج ذلك لأمنها القومي!

على أي حال، لم يرفض المصريون والأردنيون تهجير الغزاويين إلى بلادهم وتوطينهم فيها لأنهم يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، ولا انتصارًا للحقوق التاريخية والقانونية للفلسطينيين، وإنما لأن القبول بمثل تلك الجريمة سيفجر المنطقة في وجوههم ويسقط عروشهم لا أكثر، والحقيقة أن الرهان ليس معقودًا على مواقف هؤلاء رغم أهمية الاستفادة من خوفهم، وليس معقودًا أيضًا على قوة وأثر القانون الدولي رغم أهمية التمسك فيه، وإنما هو معقود على إرادة الفلسطينيين أنفسهم في رفض التهجير، لأنهم يدركون تمامًا أنه مهما بلغ بؤس عيشهم في بلدهم المدمر والمنهك يبقى أفضل ألف ألف مرة من ذل وهوان العيش في بلدان الأخوّة العربية.

هذا العالم الوضيع يشبه كثيرًا مركزًا تجاريًا كبيرًا فيه أسواق للنخاسة، وأسواق للبغايا وقاعات للمقامرة وأخرى لألعاب الفيديو الواقعية، وخيمة “سيرك” كبير حكامنا فيه مجرد مهرجين لا أكثر.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة