أحمد عسيلي
سأقص عليكم حادثة جرت معي عندما كنت طالبًا في السنة الخامسة بقسم الطب البشري في جامعة “دمشق”، تركت أثرًا عميقًا في شخصيتي وطريقة حديثي واستخدامي للكلمات في التواصل مع الآخرين، ففي تلك السنة، بدأنا بدراسة مقرر الطب النفسي، ولأنني أعشق هذا التخصص منذ الصغر، كنت مبتهجًا جدًا بالجانب الطبي الدوائي له، وتعاملي المباشر ولأول مرة في حياتي مع الوصفات الطبية والأدوية وجرعاتها وآليات عملها، بإشراف أساتذتي في مستشفى “المواساة الجامعي”، فلسنوات مضت، كان اهتمامي منصبًا فقط على علم النفس والتحليل النفسي، ولأنني كنت فخورًا جدًا بتلك المعلومات الجديدة، اعتدت أن أعيدها مرارًا وتكرار على مسامع أصدقائي، خاصة طلاب الفروع الأدبية.
وصادف أنني كنت معجبًا جدًا بعقار من الجيل الثاني لأدوية الفصام اسمه “ريسبردال”، لذلك كنت أكرر اسمه وجرعاته وفعالياته في علاج الأوهام والأهلاسات السمعية كثيرًا أمام أحد أصدقائي، غالبًا بشكل أسئلة مضحكة، فأمام كل تصرف كنت أسأله: هل أخذت حبة “الريسبردال” عيار 2 ملغ لهذا اليوم؟ كان صديقي هذا يبتسم ابتسامة صفراء خجولة، أحيانًا يغير الموضوع، ثم بعد فترة انفجر في وجهي غاضبًا، وطلب مني وقف المزاح بهذا الأمر، ليخبرني بعدها أنه فعلًا مصاب بالفصام، وأنه مر بتجربة الأوهام والخيالات التي كنت أتحدث عنها، وأنه كان لفترة نزيل أحد المستشفيات النفسية، وأن “الريسبردال” تحديدًا هو دواؤه اليومي حاليًا.
كان الموقف محرجًا جدًا بالنسبة لي، كنت مخطئًا تمامًا، فلكل إنسان أسراره التي لا يعرفها أحد، حتى أقرب أصدقائه، ورغم كونه صديقًا مقربًا لي وقتها، لم يخبرني يومًا قصة مرضه (وهذا حقه طبعًا). كان المزاح بجرعات الدواء فعلًا طائشًا، فحتى لو لم يكن هو نفسه فصاميًا، ربما كان أحد إخوته أو أبويه لديهم هذا المرض. ولم أكن قد خبرت وقتها معنى الفصام بشكل جيد، فقد كنت أعتقد كمعظم الناس أن الفصاميين نراهم في المستشفيات النفسية والعقلية فقط، أو أن لهم مظهرًا معينًا.
مر على هذه القصة حوالي 20 سنة، وإلى الآن أشعر بالندم وتأنيب الضمير من هذا الألم النفسي الذي كنت أسببه لصديقي هذا بشكل شبه يومي وعلى مدى عدة أشهر دون أن أدري، ومن وقتها تعلمت ألا أتخذ من أي مرض مصدرًا للمزاح، وأخدت درسًا قاسيًا بأن الكلمات قد تكون جارحة وتترك ندوبًا في النفس، فمهما بلغت معرفتنا بالشخص، لا يمكن أن نعرف عنه كل شيء، وقد يكون المزاح من أي مرض مصدر إزعاج له، لأنه قد يكون قد فقد عزيزًا بهذا المرض.
هذه الحالة للأسف كثيرًا ما نهملها، خاصة هذه الأيام في أحاديثنا السياسية والثقافية، فمنذ هروب المجرم بشار الأسد، قرأنا كثيرًا من السخرية عن لدغته بحرف السين، متناسين كثيرًا أنه بالنهاية أحد أشكال العجز، وأن بيننا الكثير من الأحبة والناس اللطيفين الذين لديهم نفس اللدغة، فكيف سيكون تأثير هذه السخرية عليهم؟ وما الحكمة من ربط بشار بهذه اللدغة. بالتأكيد مشكلتنا معه أبدًا لم تكن قضية مخارج حروف، ربما يأتي يومًا ما شخص كفء لهذا المنصب لديه لدغة مشابهة، فهل نحرمه من الوصول لهذا المقام نتيجة هذا الأمر!
تذكرت كل هذا حين قرأت منذ عدة أيام منشورًا في “فيس بوك” لصديقي المثقف السوري حازم إبراهيم، وهو مترجم مميز جدًا، لديه قصته الخاصة مع الإعاقة، يعكف حاليًا على كتابها، ذكر فيه الكثير من الأخطاء التي يرتكبها أحيانًا بعض أفراد النخبة السورية في كتاباتهم وتصريحاتهم، فيها إهانة كبيرة لذوي الإعاقة، منها مثلًا كلام لحكم البابا قال فيه يومًا مهاجمًا الإعلام الأسدي: “الإعلام السوري إعلام معاقين، ولا يصدقه حتى ذوو الاحتياجات الخاصة”، وكأن ذوي الإعاقة هم أقل من البشر، أو وصف لمحمد ضرار جمو قال فيه متحدثا عن “الائتلاف”: “ائتلاف الدوحة ولد معاقًا وهو كالطفل المعاق”، أو أخيرًا عنوان مقالة لنبيل فياض كتب فيها: “البعثيون والأصوليون.. مشلول يقوده أعمى”، فهل نتخيل مثلًا وقع هذه الكلمات على ذوي الإعاقة؟ ولماذا نستخدم بعض الأمراض التي قد تكون مصدر ألم للآخرين كنوع من السباب؟ هذا الاستخدام أصبح حاليًا للأسف كالسيل، سواء في لغة حياتنا الواقعية أو على “السوشيال ميديا”، وأحد مصادر الألم لكثير من المرضى الذين نشاهدهم في عياداتنا النفسية.
لا أتحدث هنا من منطلق ضرورة الالتزام بالصوابية السياسية في الحديث (politicallment correct) فليس هذا هدفي، ولا أتحدث عن أيديولوجيا أو خطاب معيّن، وإنما عن استخدام غير صحيح للكلمات، وهذا الاستخدام له تأثيرات مؤلمة على المعنيين بها، فالقضية ليست قضية لغة أو كلمات، بل عقلية وأسلوب تفكير، تنظر إلى المرض كعلامة نقص، أو شتيمة، أو أنه سبب للتقليل من قيمة الشخص، الأعمى ليس أقل من المبصر، سواء كان له إنجاز ما أو لم يكن، فنحن لسنا بحاجة لوجود شخص مثل طه حسين حتى ندرك أن العمى لا يقلل من مكانة الشخص، وقيمة الإنسان من وجوده نفسه ومن انتمائه للجنس البشري، بغض النظر عن أي قيمة أخرى، والمصاب بالشلل ليس أقل من أي إنسان آخر، استخدامنا للشلل في المهاترات السياسية تعكس عقلية غير سليمة تستدعي فعلًا تصحيح مسار تفكيرها.
المرض لا يقلل من قيمة الشخص، ولا يجوز لنا استخدامه لا للمزاح ولا للشتيمة، المرض هو خلل عضوي أو نفسي يتطلب منا دعم الشخص الذي يمر بهذه التجربة، وفقط، دون تحميل المرض أي حامل اجتماعي أو سياسي.
لغتنا الحالية للأسف فيها الكثير من الخلل، ويجب معالجته، خاصة أننا نعيش مرحلة فيها حرية تعبير بشكل لم نعشه قبلًا في بلدنا الحبيب، لذلك يجب أن نكون أكثر مسؤولية في التعامل مع هذه الحرية، وأتمنى من جميع الناس، سواء كانوا كتاب مقالات أو إعلاميين أو أي شخص آخر، أن يعيدوا التفكير في طريقة نظرتنا للمرض واستخداماتنا اللغوية له.