tag icon ع ع ع

لمى قنوت

بعد 54 يومًا من فرار الأسد وسقوط نظامه، وجه رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خطابًا مقتضبًا إلى الشعب، حدد فيه، وبشكل رمزي، عناوين عريضة لخطوات العملية السياسية التي سيعمل عليها خلال هذه المرحلة، بعد أن ولاه بيان “إدارة العمليات العسكرية- القيادة العامة”، الصادر في 29 من كانون الثاني 2025، رئيسًا للمرحلة الانتقالية وفوضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد، ودخوله حيز التنفيذ. ورغم أن الخطاب، الذي طال انتظاره، كان ذكيًا ومدروسًا، اعترفَ فيه بأثر تراكم نضالات السوريين والسوريات من أيام سجن “تدمر”، وخاطب النساء والرجال، وأطر دوره كخادم للوطن، وتجاوب مع انتقادات حكومة اللون الواحد، فتحدث عن أهمية التشاركية في عملية بناء الدولة، وبضمنها “تشكيل حكومة انتقاليه شاملة تعبر عن تنوع سوريا برجالها ونسائها وشبابها”، وأن معيار المشاركة هو الكفاءة وليس المحاصصة، وهو معيار ضروري لتأسيس دولة المواطنة، فإن الخطاب خلا من معلومات مهمة تتعلق بخطوات العملية السياسية التي أعلن عنها، مثل الإطار الزمني للمرحلة الانتقالية وأهدافها، وحجم الحكومة الانتقالية.

كما لم يعطِ الشرع أي معلومات عن المجلس التشريعي المصغر الذي سيشكله، وغابت عن الخطاب مواضيع مهمة، كالاقتصاد ونوعه بما يتلاءم مع حاجة السوريين والسوريات، وعملية السحق والتدمير التي وصل إليها الاقتصاد بعد انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 64% منذ بداية عام 2011، ووصول نسبة الفقر المدقع إلى 40.4% في عام 2024، ووفق هذه المعطيات فإن اقتصاد السوق الحر سيزيد من الهوة الطبقية، ولن يستطيع الانخراط والمنافسة فيه سوى الأثرياء، بينما تحتاج سوريا للدفع باقتصاد يقدم نموذج عدالة اجتماعية- اقتصادية، يساهم في التنمية وحفظ كرامة جميع المواطنين، نساء ورجالًا، وخاصة الفقراء والمهمشين.

وتُصِرُ حكومة تسيير الأعمال أيضًا على اعتبار النموذج الاقتصادي في إدلب ناجحًا ويمكن أن يطبق على كل سوريا، بينما هو نموذج لاقتصاد غير منتج، احتكاري، استفاد منه المقربون من “هيئة تحرير الشام” وحكومتها من ذوي الملاءة المالية، وقامت المساعدات الإنسانية والمؤسسات غير الحكومية بدور الدولة الغائب.

كما أن التخبط وسياسة التجريب التي اتسمت بها القرارات الاقتصادية بعد إسقاط النظام، تدل على عدم الاتكاء على الخبرات السورية العديدة، فتارة تُرفَع الرسوم الجمركية، وتُغرَقُ الأسواق بالبضائع التركية في وقت تتلاشى فيه قدرة الصناعات السورية على المنافسة، وتارة أخرى تُعدل 6302 تعرفة جمركية تشمل الحدود السورية مع تركيا والأردن ولبنان والعراق في 11 من كانون الثاني 2025، فيستاء التجار الأتراك من هذا القرار، فتخفض الحكومة الحالية بشكل فوري الرسوم الجمركية عن269  منتجًا تركيًا، منها مواد ينتجها السوق المحلي، وبالتالي هذه سياسات كفيلة بإرباك السوق والقضاء على ما تبقى من الصناعة المحلية. ورغم أننا معنيون باتفاقيات مع الجارة تركيا، ولكن بما لا يضر المصلحة السورية أولًا.

إن العمل على رفع العقوبات، وتمديد ما عُلق منها من قبل الاتحاد الأوربي في مجالات الطاقة والتمويل والطيران، يجب أن يسير بالتوازي مع مساعدة الفلاحين، نساء ورجالًا، الذين يعانون من نقص الوقود وآثار تغير المناخ وعواقبه، وبضمنها الجفاف الطويل وتقلبات الطقس غير المتوقعة، بالإضافة إلى آثار النزاع العسكري على صحة التربة وتلوث المياه السطحية والجوفية، وانعدام الأمن الغذائي للأسر، وبضمنها التي تُعد الزراعة المحلية مصدرًا رئيسًا لقوت يومها، ويجب أن تدفعنا هذه المعاناة والتحديات إلى تسهيل ودعم استثمارات في القطاعات والتقنيات المنخفضة الانبعاثات من أجل اقتصادات مستدامة بيئيًا.

استبدل الشرع في خطابه الشورى بدلًا من الديمقراطية، وهي منظومة متكاملة من القيم والمؤسسات والممارسات، ولا يمكن اختزالها بصندوق الانتخابات، أو تبرير تغييبها من خطابه بحجة أنه تحدث عن التشاركية، فالشورى غير ملزمة، بعكس الديمقراطية، التي هي السبيل للعبور من دولة الاستبداد الغنائمية إلى الدولة المدنية الحديثة، الحيادية تجاه جميع مكوناتها وأيديولوجيتهم، وهي نظام سياسي يلتزم بتشكيل السلطة عبر صندوق الانتخابات وتداولها سلميًا، وقائم على احترام الحريات الفردية والجماعية، وسيادة القانون.

واستبدل الشرع أيضًا “مؤتمر الحوار الوطني” بدلًا من “المؤتمر الوطني” الذي جرى تداول انعقاده منذ كانون الأول 2024، وكان متوقعًا منه أن يمنح الشرعية للسلطة، ويحدد مهام وأهداف المرحلة الانتقالية، وأن يصدر عنه تشكيل لجنة دستورية وجمعية تأسيسية بمثابة برلمان، تأخذنا إلى انتخابات وتشكيل حكومة. لكن ما طرحه الشرع في خطابه حول “مؤتمر الحوار الوطني”، واعتباره “منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”، لم يوضح فيه لمن يعود ضمير “نا”، ومن سيضع مسودة هذا البرنامج الوحيد، وما معايير اختيار اللجنة التي ستُحَضِر لهذا المؤتمر، وهل ستكون كل تلك الخطوات شكلية أم ذات معنى.

من المفيد التمعن في محدودية الأحزاب والكتل السياسية التي التقى معها الشرع حتى الآن، والتمعن في حظر إعادة تشكيل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية تحت اسم آخر، رغم أن بعضها كان قد تشكل منذ أربعينيات القرن الماضي، حتى ولو لم يعجبنا خطابها وسياساتها واصطفافاتها، واختيار الشرع للحصول على الشرعية من فصائل وافقت على تسليم سلاحها بدل الحصول على شرعية من خلال مؤتمر وطني جامع، مهما كانت تحديات عقده، ونتساءل عن خريطة الجرائم والانتهاكات التي يجب على العدالة الانتقالية محاسبة مرتكبيها وجبر الضرر عن ضحاياها، ما لم تشمل جرائم جميع الأطراف، وبضمنها التي ما زالت تُرتكب حتى يومنا هذا. كل ما طرحه الشرع هو وعود وعناوين عريضة، لا سقف زمنيًا لها، بعد أن حصر جميع السلطات في يده.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة