الكلام أو الموت

  • 2025/02/02
  • 1:27 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

علي أن أشير بداية، إلى أن عنوان هذه المقالة ليس من تأليفي، بل مأخوذ من عنوان لواحد من أهم مؤلفات أستاذنا في التحليل النفسي مصطفى صفوان، وهو كتاب صعب للغاية، قراءته عمل شاق، كمعظم مؤلفات صفوان، وفيه يبحث في دور الكلام بتشكيل الوعي والمجتمع، فالكلام هو الدليل الأقوى على وجودنا، بذل فيه الإنسان مجهودًا جبارًا منذ لحظة اكتشاف القدرة على تشكيل أصوات مختلفة، نتج عنها لاحقًا اللغة، فخر الرقي البشري، فمعها أصبحنا قادرين على التعبير عن أحاسيسنا وأفكارنا، وارتبط الكلام منذ لحظة اكتشافنا تلك القدرة، بوجودنا ذاته، فصار أهم دليل على تميزنا، وأصبحت حرية الكلام، أو ما سمي لاحقًا حرية التعبير، حقًا مقدسًا لا يجوز المساس به في جميع الدول الديمقراطية، لأنه يعادل حق الوجود نفسه، فما قيمة وجود إنسان صامت محروم من أهم ميزة بشرية؟

الكلام إذًا هو الحرية، هو الوجود، وكلما زادت القدرة على الكلام بشكل حر أكثر، زاد إحساسنا بوجودنا، فالكلام يخضع لمكبوتات كثيرة، اجتماعية وسياسية ودينية، كلما زادت، انخفض مستوى الإحساس بذواتنا.

لذلك اعتمدت تقنية فرويد في التحليل النفسي على “التداعي الحر” (asociation libre) أو ما كان يسمى “العلاج بالكلام” في جلسات التحليل النفسي الكلاسيكية. يستلقي الخاضع للتحليل على أريكة، ويبدأ باستدعاء أفكاره دون أي تنظيم أو مسار محدد، يقول ما يخطر بباله، حتى أكثر الأشياء حميمية. لا نتوقع منذ البداية أن يقول الخاضع للتحليل كل شيء، بل دائمًا ما يكون هناك بعض المقاومة للتعبير عما يريد قوله، تخرج بداية من خلال بعض زلات اللسان (ندعوها بالزلات الفرويدية، وكم سببت هذه الزلات من فضائح سياسية) ثم مع الزمن والثقة العلاجية تخف قليلًا هذه المقاومات، ويبدأ المريض بقول كل شيء، دون أي مقاومة أو كبت، لذلك فجلسات التحليل النفسي في نهاياتها تصبح معادلًا للوجود الكامل، لأن الإنسان يكون قد تجاوز كل المكبوتات، وأصبحت لديه القدرة على قول كل شيء، بل قالها فعلًا، على الأقل مرة واحدة، وأمام شخص واحد، هو محلله النفسي. هنا، وهنا فقط، تنتهي عملية التحليل النفسي، التي قد تستغرق سنوات طويلة.

وهذا الأمر لا ينطبق فقط على جلسات التحليل النفسي، بل حتى على الاستشارات الطبية العادية (هضمية أو تنفسية أو قلبية) فمع تراكم خبراتنا كأطباء، أصبحنا نعرف أن المريض لا يفصح عن كل شكواه منذ البداية، وإنما يخفي دومًا بعض أعراضه المرضية بشكل لا إرادي غالبًا، حتى على طبيبه الخاص، وهذا ما أطلق عليه فرويد “عدم الإخلاص اللاواعي”، وعلينا نحن كأطباء مسؤولية جعله يقول كل شيء، من خلال التأسيس لعلاقة ثقة علاجية، فمهارة الطبيب لا تنحصر في علاج المريض فقط، بل في إنشاء هذه الثقة وجعله يخبرنا بما يشعر به تمامًا، وكم من مرض كان الفشل في علاجه ناتجًا عن هذا الصمت، فلن ينطق الإنسان بما يشعر به، دون تأمين بيئة مناسبة، ومريحة له للتعبير عن رأيه، أي الإفصاح عن كيانه ووجوده.

وكما هي مهمتنا كأطباء أمام المرضى لجعلهم يقولون كل شيء، هي مهمة القائمين على الدولة، من حكم ومعارضة ومنظمات مدنية وشرطة وقضاء، لخلق جو عام يستطيع فيه الإنسان التعبير عن نفسه، وبالتالي الإحساس بوجوده “الذاتي والاجتماعي”.

من هذه الرؤية، يعتبر نظام الأسد البائد مرادفًا للموت، فالمحظورات الكلامية والمخاوف والمقاومات وصلت حدها الأقصى، وصار الإنسان السوري كائنًا صامتًا، يخاف الكلام حتى في بيته (للحيطان آذان)، وانتشرت عبارات كثيرة لا تقول شيئًا ولا تسمن ولا تغني من جوع، كلمات مجرد “كليشيهات” لا معنى لها، وهي الصمت- الموت ذاته، كـ: “الله يطفيها بنوره”، “إن شالله خير”، “إحنا بدنا مصلحة الوطن”، كلمات لا تعبر عن رأي ولا موقف.

ونتيجة طول الفترة الزمنية لهذا الصمت، ولأن الكلام حاجة، فقد حاول البعض تشكيل لغة موازية رمزية، تحاول أن تقول الشيء بأسلوب موارب وخائف، ومع الزمن تشكل لدينا قاموسنا السوري الخاص، بلغته المقعرة الغريبة، من أمثلتها المشهورة في لغة الشارع، الشاب الذي ظهر منذ عدة سنوات في مقابلة في كراجات طرطوس، حين أراد الجواب عن سؤال الصحفية حول حالة النقل بين القرى في المحافظة، فاستعمل كلمات فلسفية وسياسية غريبة لا علاقة لها بالسؤال، ولاقت وقتها انتشارًا واسعًا، لأنها حالة متطرفة للغة موجودة فعلًا في الشارع السوري، كلمات طنانة لا تقول شيئًا.

ومن أمثلة تلك اللغة على المستوى الأدبي، لغة الحوار في رواية حقول الذرة، للروائي السوري الشاب سومر شحادة، فرغم الموهبة الأدبية لهذا الكاتب، الذي بقي في الداخل السوري، جاءت لغة أبطال الرواية، خاصة حين حديثهم عن سبب الثورة، لا تختلف عن لغة الشاب الطرطوسي، كلمات سابحة في الفضاء، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها. أتفهم الكاتب طبعًا، فهو يسكن مع مخابرات الأسد في مدينة واحدة.

هذه اللغة- الجثة، بدأت تظهر عليها معالم الحياة منذ لحظة انتصار الثورة السورية، وكأن الروح نُفخت فيها، فبدأت تنتشر لغة جديدة، أكثر عفوية، أكثر التصاقًا بالواقع وتعبيرًا عنه، أصبح حديث الأديان والطوائف أكثر طبيعية، التعبير عن الذات والهوية متاح وللجميع، الآراء السياسية ونقد أسلوب الحكم لم يعد محصورًا فقط بسوريي الخارج، بل أصبح للسوري في الداخل كيان ووجود لأول مرة منذ سنوات طويلة، والفروق في مستوى الحرية بين الداخل والخارج يكاد ينعدم (بل أصبح معدومًا)، للكل صوت، وللكل وجود، وهذا ما عشناه بشكل صارخ يوم بيان إعلان النصر، فاختلاف ردود الفعل كان شاسعًا بين الجميع، والانقسامات كانت حادة حتى بين أفراد التيار الواحد.

للكل رأي، للكل صوت، الكل يسخر أو يمجد، يندب أو يبارك، هي حالة صحية تمامًا، فانتصار الثورة أعاد الحياة- الكلام للسوري، ولذلك يجب أن نتمسك بتلك العودة، فإما الكلام وإما الموت.

مقالات متعلقة

  1. أخي الثائر الفيسبوكي
  2. ملاحظات يجب أن تقال في نقد الثورة السورية
  3. عقدة التماهي مع الحاكم
  4. الحالة النفسية للسوريين في المنفى.. لماذا وصلنا إلى هنا؟

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي