سيُسقط السوريون كل “أبد” جديد

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

تتسارع الوقائع في سوريا للدرجة التي تجبرك، وبعد أن تكون قد شرعت بكتابة مقالك الأسبوعي وشارفت على وضع لمسات أخيرة عليه، أن تلغي كل ما سطرت لتبدأ بتكوين إطار لمقال جديد عن واقعة أو حدث يفرض أولوية التعاطي معه وتناوله بالرأي والتحليل.

يوم الأربعاء (29 من كانون الثاني 2025) فرض حدث إعلان “انتصار ثورة السوريين” نفسه، إذ تضمن تنصيب أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا لسوريا، وإعلانه سلسلة قرارات تتعلق بإنهاء العمل بالدستور وحل الفصائل المسلحة وحزب “البعث” والأحزاب الرديفة له في “الجبهة الوطنية” وحظر إعادة تشكيلها تحت أي مسمى، وكذلك حل مجلس الشعب، وحل الجيش والقوى الأمنية كافة، بالإضافة إلى تفويض الرئيس الانتقالي بتعيين مجلس تشريعي يتولى إصدار إعلان دستوري يناط به إصدار ما يلزم من قوانين. وهو حدث بكل المعايير من أكبر الأحداث التي واجهتها سوريا الدولة منذ أكثر من نصف قرن، وستكون له بطبيعة الحال ارتدادات وآثار عميقة في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي لسوريا لعقود طويلة.

الآن صار الشرع رئيسًا، يفترض أنه انتقالي وليس أبديًا، وأزعم أن معظم السوريين الذين عانى قسم منهم من حكم وتحكم الفصائل المسلحة، ومنها “هيئة تحرير الشام” بالتأكيد، في المناطق التي تحررت من قبضة النظام قبل التحرير، يدعمون هذه الخطوة لأنهم يرون فيها خطوة مهمة لإنهاء سلطة الميليشيات وتسلطها وفسادها، والتوجه نحو حكم الدولة والأمل بعدلها، وهذا الدعم بالقطع هو دعم لفكرة ترسيخ الدور الحقيقي لمؤسسات الدولة واحتكامها إلى القانون لا إلى الأوامر والنواهي الميليشيوية، بل ربما كانت الإيجابية الوحيدة في كل ما حصل يوم الأربعاء هو أنه صار للسوريين اليوم عنوانًا ومرجعية، هي الدولة وسلطاتها، والتي ستتحمل مسؤولية أفعالها وقراراتها، وسيسألها الناس ويسائلونها عن ذلك.

الشرع الآن بالمعنى الدستوري هو حاكم مطلق الصلاحية على كامل أجهزة الدولة وأنساقها ومستوياتها السلطوية، فهو يملك الآن سلطة تشكيل مجلس تشريعي يتولى إصدار القوانين وتعديلها، وهو بالواقع رئيس للسلطة القضائية التي يمنحه إياها نص المادة “65” من قانون السلطة القضائية، الذي لا يزال معمولًا به حتى الآن، وهو بكل تأكيد السيد المطلق للسلطة التنفيذية بكل مؤسساتها وأجهزتها.

وهذا يعني أنه الحاكم الذي لا يحدّ من سلطانه ولا صلاحياته حدّ طوال “الفترة الانتقالية”، وهي الفترة التي يعرف السوريون مبتداها لكنهم لا يعرفون مداها ومنتهاها، وهنا مكمن الخوف والخطورة من أن تتحول تلك الفترة إلى ” أبد” جديد يحاول استنساخ “أبد” الأسد، ذلك أن السلطة الانتقالية الحالية كانت قد طبّعت السوريين على حاجتها لفترة انتقالية مدتها بين أربع وخمس سنوات لتتمكن من العمل على وضع دستور دائم للبلاد والتحضير لانتخابات عامة، رغم أن المسألة باعتقادي وتقديري لا تحتاج إلى أكثر من سنة واحدة أو أكثر ببضعة شهور للتوافق على دستور جديد وكتابته، وعلى تحضير القوائم الانتخابية بل وتشريع قانون انتخابي تتم الانتخابات المنتظرة وفقًا لمنطوقه، وبالتالي فأنا ممن يؤمنون بأن السلطة الحالية ستثتثمر تلك السنوات في تجذير أعمدة سلطتها وسلطانها في عمق الدولة الجديدة، وأن شرعية تلك السلطة لن تكون مستمدة من الإرادة الحرة للسوريين بل مما تتلقاه من دعم وتأييد خارجي دولي وإقليمي وعربي، وهو ما سيجعلها مجددًا مجرد سلطة وظيفية في الإقليم، أكثر مما هي سلطة لخدمة مصالح عموم السوريين إلا بالقدر الذي لا تتضارب فيه تلك المصالح مع موجبات التخادم الدولي والإقليمي.

أعرف مسبقًا أن ما أقوله سيثير مشاعر البعض ويعتبرونه في أحسن الأحوال قراءة سوداوية للواقع، وسيعتبره في أسوأ الأحوال بعض آخر انتقادًا مسبقًا لسلطة طوت لنا صفحة “الأسدية” وتقع على كاهلها مسؤوليات كبرى، وأن ما أقوله ينبع من موقف مسبق تجاه حكم التيارات الإسلامية.

والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك، فليست عندي حساسية من تولي الإسلاميين الحكم إذا ما تولوه ضمن أجندة عمل تنظر إلى عموم السوريين كمواطنين كاملي الحقوق في المواطنة المتساوية بصرف النظر عن أي انتماءات ما دون سورية لهم، وأن يكون الدستور المتوافق عليه وطنيًا هو الفيصل والمرجع، وأن يسود حكم القانون وتترسخ فضيلة التداول السلمي للسلطة لا أكثر.

أما ما يتعلق بالقراءة التي يراها البعض سوداوية، فأنا أراها رمادية اللون لأنها خليط من الآمال البيضاء المنتظرة، والمخاوف السوداء القائمة، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة مهما كانت المبررات، ومهما حسنت النيات، ذلك أن تعاظم القوة السياسية والتفرد بالسلطة بدعم من فائض قوة عسكرية، يخلق بالضرورة البيئة المناسبة والمستولدة للانحراف والتسلط والفساد. وحدها التعددية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة وسيادة القانون هي التي تحمي الأوطان وشعوبها من آفة الاستبداد.

اليوم قد يكون على السوريين جميعًا إرسال إشارات دعم مقيّد للسلطة الجديدة، فنحن داعمون لها بالقدر الذي تدعم هي فيه وحدة سوريا وسلامة شعبها قبل أرضها، فبالقدر الذي تستجيب فيه السلطة لموجبات بناء دولة القانون والمواطنة، وتعيد للسوريين جميعًا حرياتهم وتحمي كراماتهم وتوفر لهم سبل العيش الكريم الذي يليق بهم وتبني لهم وطنًا يشتاقون إليه فور أن يغادروه، وتؤسس لدولة ديمقراطية يتداول فيها السوريون السلطة بسلاسة وكرامة وفق ما تقرره الإرادة الحرة لشعبها فسنكون، وأزعم أن جلّ السوريين سيكونون داعمين لها بكل ما أوتوا من قوة سبق أن كتبوا فيها نصرهم المبين، وهم قادرون مجددًا على أن يكتبوا نصرًا مماثلًا إن اقتضت الضرورة، على كل من يحاول أو يسعى لإعادة عقارب ساعة الزمن السوري إلى الوراء.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة