منتصف كانون الثاني الماضي، أعلن وزير النفط والثروة المعدنية السوري، غياث دياب، عن فتح المجال أمام القطاع الخاص لاستيراد المواد البترولية إلى سوريا، لكن دون السماح بتوزيع هذه المواد.
وأوضح الوزير، أن استيراد مواد المحروقات سيكون متاحًا لجميع الجهات الدولية والشركات والدول، دون حصر استيرادها بالحكومة فقط.
ومنذ تسلم حكومة دمشق مهامها أعلنت وزارة النفط السورية، عن عدة مناقصات لتوريد غاز منزلي ومحروقات، بمواصفات وشروط محددة.
في الأسواق المحلية، قررت حكومة دمشق تحديد أسعار المحروقات بالدولار الأمريكي، ما يجعلها عرضة للتذبذب بقيمتها بالليرة السورية التي تشهد تغيرًا في سعر صرفها، وأدى ذلك إلى توفرها بشكل أكبر من السابق وبأسعار أقل من الأسعار التي كان يحددها النظام السابق وفق السعر “الحر”، فيما ارتفعت الأسعار إذا ما قيست بالسعر “المدعوم”.
نحو اقتصاد حر
حول أثر فتح باب الاستيراد للقطاع الخاص على قطاع المشتقات النفطية في سوريا، قال المحلل الاقتصادي والسياسي في شؤون الشرق الأوسط، الأكاديمي محمد صالح الفتيح، إنه لا يمكن تقديم إجابة جامدة تحدد دور القطاع الخاص في مجال المشتقات النفطية وبشكل يصلح لكل الدول والأوقات.
وأضاف الدكتور محمد صالح الفتيح، في حديث إلى عنب بلدي، بالنسبة لسوريا تقود حكومة تصريف الأعمال عملية انتقالية للاقتصاد باتجاه التحرير الكامل، ولم يصل الاقتصاد لمرحلة التحرير الكامل بعد، ومن المنطقي أن تستغرق هذه العملية الانتقالية فترة أشهر إن لم يكن سنوات، وبالتالي فتح الباب بالتدريج للقطاع الخاص للمشاركة في بعض وليس كامل مراحل عملية شراء وتوزيع المحروقات هو أمر ينسجم مع العملية الانتقالية.
وضمن ما يتصل بالخصوصية السورية، أشار الخبير إلى أن إعلان وزارة النفط والثروة المعدنية مؤخرًا لاستدراج عروض لتوريد النفط الخفيف والثقيل والمشتقات النفطية نص على أن الوزارة ستسدد 10% من ثمن المواد الموردة فور تسليمها، ثم يتم سداد 30% بعد 15 يومًا، و30% بعد 30 يومًا، و30% بعد 45 يومًا من التوريد.
في السيناريو المثالي يتوقع أن تقوم الحكومة السورية بالتعاقد مع حكومة أخرى مصدرة للنفط وتوقع عقود توريد طويلة الأمد يتم التوريد فيها وفق أسعار متفق عليها وعبر دفعات مالية منتظمة، ولكن نظرًا للظروف الخاصة التي تمر بها سوريا، خاصة لناحية وجود عجز في النقد الأجنبي، وعدم اتضاح حجم الاستهلاك المتوقع على المدى المتوسط والطويل، فمن الصعب توقيع مثل هذه العقود، لهذا يتم اللجوء لأطراف أخرى تعمل في مجال تجارة النفط ويكون لديها عادة مخزون نفطي وتستطيع توريد هذا المخزون وقبول انتظار تسلم هذا المخزون على دفعات.
آثار إيجابية
ما دامت وزارة النفط ستقبل بالتعاقد مع شركات أجنبية فلا يوجد ما يبرر منع مشاركة القطاع الخاص السوري في هذه العقود، بل قد يكون لمثل هذه المشاركة تأثير إيجابي عبر إضعاف هيمنة الشركات الأجنبية بحسب الخبير الاقتصادي، محمد صالح الفتيح.
أما بالنسبة لحصر عملية توزيع المشتقات النفطية بيد الحكومة السورية فهذا يعود بتقدير الخبير إلى عاملين: الأول، لكون الحكومة لا تزال تمتلك مصفاتين للنفط ولا يوجد مصافي نفط لدى القطاع الخاص، وامتلاك هاتين المصفاتين يمنح الحكومة اليد العليا في عملية توزيع المشتقات النفطية وبالتالي لا مبرر للتخلي عن هذا الدور، فيما يتعلق العامل الثاني بعملية التسعير.
فريق من دائرة الرقابة والجودة التابعة لـ”الإنقاذ” يجول على محطات الوقود في سرمدا والدانا للتأكد من مطابقة المواد للشروط المعتمدة ومعايير العدادات والتأكد من المخزون الاحتياطي- 22 من نيسان 2024 (المديرية العامة للمشتقات النفطية في إدلب/ تلجرام)
مضاربة وتقلب في الأسعار
نتيجة صعوبة تأمين المشتقات النفطية عبر شركة محروقات الحكومية، كان قرار فتح باب الاستيراد للقطاع الخاص ، هو قرار صائب، وفق ما يرى الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة “حلب”، الدكتور حسن حزوري، مشيرًا في حديث إلى عنب بلدي أن القرار يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية على توفر المادة، بالمقابل هناك العديد من الآثار السلبية أيضًا.
تتمثل التأثيرات الإيجابية، وفق حزوري، بأربعة عوامل أولها زيادة الكميات المتاحة أو العرض، إذ يمكن أن يزيد استيراد القطاع الخاص من كمية المشتقات النفطية المتاحة في السوق، ما يساهم في تقليل النقص وتأمين احتياجات السوق المحلي.
يتمثل العامل الثاني بتنويع مصادر التوريد، إذ قد يؤدي الاعتماد على القطاع الخاص إلى تنويع الموردين والابتعاد عن الاعتماد الكلي على الموردين الحكوميين، مما يضمن تدفقًا مستمرًا للإمدادات، بالإضافة إلى عامل تقليل الضغط على الحكومة إذ يخفف تحرير السوق العبء عن الحكومة فيما يخص الاستيراد والتوزيع، ما قد يتيح لها التركيز على تطوير البنية التحتية أو تعزيز الرقابة.
كما قد يؤدي القرار إلى تعزيز المنافسة والتي ستخلق بدورها حالة من تحسين جودة الخدمة والحد من الاحتكار.
يمكن أن يحمل القرار العديد من الآثار السلبية، وفق الدكتور حسن حزوري تتمثل بمايلي:
- تقلب الأسعار وعدم ثباتها، قد تصبح الأسعار غير مستقرة نتيجة ارتباطها بالسوق العالمية التي تتأثر بعوامل مثل أسعار النفط الخام، النقل، وسعر صرف العملات الأجنبية.
- احتمال وجود مضاربة، إذ قد تستغل بعض الشركات الخاصة الوضع لرفع الأسعار بشكل غير مبرر أو تخزين الكميات لتحقيق أرباح إضافية.
- ضعف الرقابة، ففي حال عدم وجود قوانين صارمة وإجراءات رقابية محكمة، قد يؤدي ذلك إلى انتشار الوقود غير المطابق للمواصفات أو عمليات فساد.
- عبء إضافي على المستهلك، إذا لم يكن هناك دعم حكومي للقطاع الخاص أو للمستهلكين، قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار بشكل لا يستطيع المواطن العادي تحمله.
مخاوف من فوضى.. الضرائب تتحكم
يفتح السماح للقطاع الخاص باستيراد النفط الباب أمام التساؤلات حول مدى أن يحدث القرار فوضى في هذا السياق، وبالتالي فوضى في الأسعار، وأن بفتح بابًا للتجار لاستغلال حاجة الدولة إلى هذه المواد.
الخبير الاقتصادي محمد صالح الفتيح، يرى أن سوريا تمر بمرحلة انتقالية في الاقتصاد، ولهذا لا تزال أسعار المشتقات النفطية مثبتة بينما نجد أسعار البضائع الاستهلاكية الأخرى في الأسواق وقد حررت بالكامل وباتت تخضع لعوامل العرض والطلب.
ولكن فيما يخص المشتقات النفطية لا يزال هناك دور مركزي للحكومة السورية ولا يوجد منافس في تقديم المشتقات النفطية في “الكازيات”، هذا طبعًا لا ينفي وجود ظاهرة بيع المشتقات النفطية من قبل باعة جوالين بأسعار تختلف من منطقة لأخرى.
مسألة تسعير المشتقات النفطية من قبل الحكومة ستنتظر إتضاح النظام الضريبي والرسوم التي سيتم فرضها على المشتقات النفطية، وفق الفتيح.
تعد أسعار المشتقات النفطية اليوم في سوريا لا تزال مرتفعة بالمقارنة مثلًا مع لبنان الذي يفرض رسوم جمركية وضريبة قيمة مضافة “VAT” بنسبة 11% على البنزين، فضلًا عن رسوم أخرى منها للجمارك ومنها للاستهلاك الداخلي، نسبة هذه الرسوم في لبنان من السعر الإجمالي لصفيحة الـ20 ليتر من البنزين تفاوتت في السنوات الماضية. فكانت تشكل حوالي 28% من السعر الإجمالي في 2018 وانخفضت مؤخرًا إلى حوالي 11% في 2024.
ولكن بالرغم من هذه الرسوم نجد سعر صفيحة البنزين في لبنان اليوم 1 مليون و492 ألف ليرة لبنانية وهذا ما يعادل 16.76 دولارًا أمريكيًا لـ20 ليترًا، بينما يصل سعر الصفيحة في سوريا إلى 352 ألف ليرة سورية أو 27 دولارًا وفق السعر الرسمي للدولار البالغ 13 ألف ليرة سورية للدولار الواحد.
بالطبع، سعر البنزين حاليًا في سوريا هو أقل بقليل مما كان عليه في آخر أيام النظام السابق، والسعر في تلك المرحلة كان نتيجة الإتاوات وتقنين الحصول على المشتقات النفطية، لهذا فالسعر الحالي هو أقل بقليل مما كان عليه سابقًا، ولكنه لا يزال أعلى مما هو متوقع، خصوصًا عند المقارنة مع الأسعار السائدة في لبنان، بحسب الباحث، متأملًا أن تراجع الحكومة أسعار المشتقات النفطية بعد توريد إنجاز الدفعة الأولى من عمليات التوريد التي يتوقع أن تنجز قبيل أو مطلع شهر رمضان.
إجراءات واجبة
لضمان نجاح سياسة الاعتماد على القطاع الخاص في توريد المشتقات النفطية اقترح الأستاذ في كلية الاقتصاد، حسن حزوري، عدة شروط يجب أن تقوم بها الحكومة السورية وهي تنظيم السوق، من خلال وضع قوانين صارمة لضمان استقرار الأسعار وجودة المنتجات.
كما يتطلب الأمر تقديم دعم حكومي للقطاع الخاص عبر تقديم تسهيلات للشركات الخاصة لتخفيف تكاليف الاستيراد مثل تخفيض الضرائب او الرسوم الجمركية، فضلًا عن التنسيق والتعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان عدم التداخل وتجنب احتكار السوق.
ويجب على الحكومة تفعيل وتشديد الرقابة لمنع الاحتكار وضمان وصول المواد للمستهلكين بسعر معقول، وفق حزوري معتبرًا أنه إذا تم تنفيذ هذه السياسة بشكل مدروس ومنظم، فمن المحتمل أن تؤدي إلى تحسن في توفر المشتقات النفطية واستقرار نسبي في الأسعار.
وكانت حكومة الرئيس المخلوع، بشار الأسد، توزع مخصصات المحروقات على المقيمين في مناطق سيطرتها بشكل مقنن، ما يجبرهم على اللجوء لـ”السوق السوداء” لتغطية احتياجاتهم منها، حيث تختلف الأسعار وفق الطلب عليها، ووجود وفرة في المواد “المدعومة” أو عدمه، إذ تتضاعف حين حدوث أزمات متكررة في المحروقات، بينما تعاود الانخفاض حين توفر المواد بشكل نظامي.
كما كانت معظم أسعار المواد الاستهلاكية تتأثر بزيادة أسعار المحروقات، وسط تدني القوة الشرائية للسكان وتدهور الوضع الاقتصادي، بحيث تعتمد العديد من العوائل على حوالات السوريين من ذويهم المقيمين خارج سوريا، لتأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.