مقهى “الروضة”.. شاي وتاريخ وسياسة
عنب بلدي – حسام المحمود
مع سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، وجد السوريون أنفسهم أمام تجربة سياسية يختبرونها لأول مرة منذ عقود طويلة، أتاحت لهم الحديث في السياسة بالصوت المسموع والعالي، بعدما كانت أحاديث من هذا النوع تتهادى همسًا إلى المسامع ضمن دوائر ضيقة مأمونة الجانب خوفًا من قبضة الاستبداد وسياسة تكميم الأفواه التي غطت على البلاد لـ53 عامًا، حكم فيها حافظ الأسد، ثم ابنه بشار الذي وصل إلى السلطة بلا انتخابات أو برنامج سياسي اختاره الشارع، أو عبّر فيه عن إرادته.
الأجواء في سوريا منذ 8 من كانون الأول 2024، تختلف عما سبقها، فمظاهر الأعياد والحياة الصاخبة عادت إلى المدينة والشارع، وتنفّس الناس، وصار بالإمكان الحديث والنقاش حول مستقبل البلاد، مع تباين مطلوب في وجهات النظر، طالما أن الجميع ينشد في النهاية إعلاء مصلحة وطن قطعت أوصاله الحواجز العسكرية، وشوّه صورته استجلاب نظام الأسد للقوى الأجنبية للقتال في صفه ضد الشعب الذي طالب برحيله منذ عام 2011، واستمر على النهج ذاته وصولًا للغاية المأمولة نهاية العام الماضي.
ومن الأماكن التي فتحت أبوابها للحوارات السياسية والتعبير الديمقراطي عن الأفكار والآراء والهواجس والتوجسات السياسية، مقهى “الروضة” في العاصمة السورية، الذي استأنف جانبًا وظيفيًا له كان معطلًا من قبل، فرغم استقطاب المكان للنخب المثقفة في سوريا من صحفيين وكتّاب وممثلين ومخرجين، وفنانين يمارسون مختلف الأنشطة الإبداعية، فإن الحالة التي كانت غالبة على المقهى قبل الثورة كانت عبارة عن طاولة تجمع حولها مجموعة من المثقفين يشربون الشاي والقهوة، ويتحدثون في الثقافة والهواجس الإبداعية والنقد الفني، ولم يكن المقهى يخلو من نشاط سياسي على الرغم من أن أعين المخبرين كانت تراقب رواد المقهى وتسجّل أنفاسهم.
يعود تاريخ تأسيس مقهى “الروضة” إلى عام 1937، وقام على أنقاض سينما قديمة، وهو المكان الذي مرّ به شعراء سوريون وعرب، بينهم ممدوح عدوان، وسعدي يوسف، ومظفر النواب.
ومن السياسيين والصحفيين، كان يواظب على الحضور فيه شخصيات مؤثرة مثل ميشيل كيلو، وفؤاد بلاط، وأحمد برقاوي، وشهد جانبًا من حوارات ربيع دمشق مطلع عام 2000.
بعد سقوط نظام الأسد، استعاد “الروضة” نشاطه وإن بملامح مختلفة، مستفيدًا من موروثه الثقافي، مع مساحة واسعة من الحرية تشبه إلى حد بعيد العصر الذهبي الذي عاشته سوريا إبان الاستقلال وقبله، على مستوى الحريات وممارسة النشاط السياسي والنقاش الحاد الذي تعلو به الأصوات إعلاء لمصلحة البلد.
ويعتبر مقهى “الروضة” واحدًا من أبرز المقاهي التاريخية والعريقة في العاصمة السورية، إذ يحافظ المكان على طابعه التقليدي تماشيًا مع روح المدينة القديمة، حيث يقع في منطقة الصالحية، قرب الأسواق والمحال التجارية.
المقهى الذي تأسس قبل عقود تحوّل مع الزمن إلى رمز من رموز الحياة الثقافية والاجتماعية، دون مجهود كبير، فالديكور مستوحى من الطراز الشرقي التقليدي، بسيط ومريح، وهناك أثاث من الخشب، وأعمال فنية وصور تكسو الجدران بملامح من التاريخ.
أكثر من ودّية
محمد، أحد الشبان السوريين الذين عادوا إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وزار المقهى أكثر من مرة، تحدث لعنب بلدي عن الأجواء الاحتفالية التي تغطي المكان وخلق المناسبات في حال تعذّر وجودها، مع استقبالات لا تنتهي لفنانين وناشطين، وصولًا إلى الاحتفال بصورة الممثل الراحل خالد تاجا الذي خرج من صورة الممثل نحو رمزية المناضل، بالحديث عن موقفه السياسي الذي لم يكن مرحبًا بسياسة العنف والبندقية ضد الشارع، وصولًا إلى نهاية توجه أصابه الاتهام بها لفروع الأمن التابعة للنظام السابق.
وقال الشاب، إنه التقى في المقهى بشخصيات عاملة في الثقافة لم يلتقِها من قبل، وناشطين إعلاميين، وحقوقيين، وعاملين في الشأن الإنساني، وصولًا إلى حضور أفراد من العسكر في المقهى، معتبرًا أن الجاذبية التي لفّت بعض مقاهي العاصمة إبان تحرر البلاد سياسيًا، خلقها نسبيًا شيء من المصادفة، فالناس اجتمعوا في مقهى الروضة بعد سقوط الأسد فورًا وأقاموا احتفالًا، وانتشرت تسجيلات مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الاحتفالات، ما استقطب المزيد من الناس مرة أخرى وأخرى.
“بعض الناس يزورون المقهى للتعرف إلى بعضهم وللتعرف إلى الشخصيات العامة”، أضاف الشاب، مشيرًا إلى أن المقهى يفتتح نشاطه منذ الصباح، ويقضي الناس وقتًا طويلًا في المكان بما يخرجه من إطار المقهى إلى حالة الملتقي، فهناك تلتقي الآراء وتتعارض، ويتناقش أصحابها ويستعصمون بوجهات نظرهم، فمن يريد دولة إسلامية في سوريا المستقبل حاضر، ومن ينشد دولة علمانية حاضر أيضًا، دون ما يمنع طرح أي موضوع للنقاش، في الثقافة والسياسة.
العلم السوري، وسنّ قانون يجرّم تمجيد النظام السابق، والأغاني الشعبية، وغيرها الكثير من المواضيع التي يتحدث الناس بها في المقهى بأجواء ودّية فاقعة تتجاوز الحاجز الاجتماعي لأشخاص يلتقون لأول مرة، فيدخلون سريعًا في صلب المواضيع التي تؤرق بالهم وتقلقهم أو يبحثون لأسئلتها عن إجابات، مع اختلاف في نوع النخب وحشدهم في مكان واحد.
وبالحديث عن الأسعار التي تتفوق على مثيلاتها في المقاهي الشعبية الأخرى، يبرز عامل يشي بالطبقية في مكان، فالنخب تلتقي في نفس المكان مع بعضها لتناقش بعضها، بينما تُترك مقاهٍ أخرى لعامة الناس دون أن أي نشاطات فكرية تُذكر، في الوقت الذي يفترض أن تلتقي النخب بالعامة، وأن تدور هذه النقاشات والندوات على مسامع العامة.
آمال بشيء حقيقي
حسنة، شابة مقيمة في دمشق، أوضحت لعنب بلدي أن هذه الظاهرة تنحصر نسبيًا في مقهى “الروضة” الذي يزوره ناشطون سابقون في الثورة أو مهجرون عادوا إلى سوريا بعدما رحل الأسد.
أشارت الشابة إلى كلمات يلقيها مؤثرون في المكان، معربة عن أملها بوجود شيء حقيقي، وحديث عن كيفية تخطي المرحلة، وما المفترض إنجازه للنهوض بمستقبل البلد، كون مجرد الحديث فقط قد لا يحقق تلك النتائج الملموسة، مع التأكيد على أن مظاهر الانفراج مهمة وجميلة، بعد عقود من سلب حرية الفكر والرأي، لكن هذه الاحتفالات لا تقدّم شيئًا لذوي المفقودين والمعتقلين في سجون النظام السابق، وحسنة واحدة منهم.
بيئة لنشر الوعي
على مر التاريخ، لعبت المقاهي دورًا في الحياة السياسية والاجتماعية، وكانت مساحات مفتوحة للنقاش وتبادل الأفكار، في العديد من الثقافات والمجتمعات، وشكّلت بيئة حاضنة للسياسيين والمفكرين وأسهمت في نشر الوعي السياسي ومناقشة قضايا كالاستعمار والاستقلال والتحولات الجذرية.
وخلال القرنين الـ17 والـ18 كانت مقاهي فرنسا وبريطانيا مراكز للثورات الفكرية والسياسية، وما قبل الثورة الفرنسية كانت نقطة التقاء لتشكيل الوعي الثوري من قبل الكتاب والمثقفين من خلال تبادل الآراء، وهو ما وصل إلى العالم العربي في القرن الـ20، حين تحولت المقاهي إلى ملتقى سري لتنسيق الأنشطة السياسية من قبل المناضلين.
كما لعبت دورًا في تشكيل الرأي العام وتبادل الآراء لا سيما في طور ما قبل وسائل الإعلام الحديثة، فكانت مصدرًا لتداول الأخبار والروايات السياسية والقصص، وارتبطت بحركات التنوير في أوروبا والعالم العربي للتبشير بالحرية والمساواة وتعزيز حرية التعبير من خلال نقاشات جماعية مفتوحة، وهو ما وضعها في مرمى أجهزة الأمن القمعية ما جعل نشاطها وتراجعه مؤشرًا على إيقاع الحياة السياسية في بلد ما.
ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك خارج سوريا، مقهى “ريش” في القاهرة، و”الزهاوي” في بغداد”، ليتحول المقهى إلى مؤسسة اجتماعية تحاول نقاشات روّاده تشكيل التاريخ السياسي والثقافي لبلادهم، وهو ما يعيد السوريون اكتشافه اليوم بعدما تلمّسوا حرية دفعوا ثمنها 14 عامًا من القمع على يد نظام الأسد وحلفائه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :