ملصقات “لا تكوني كافرة مسترجلة”
لمى قنوت
بين يوم وآخر، ثمة ملصق وَثَّاب، يفرز النساء بين كافرات مسترجلات ومسلمات جيدات، يضع معيارًا لكل منهما، يُصَوِر الأولى منهن كجسد مستباح، وخريطة إغواء، ونموذج للاستيهام، ومخزن للدلالات، يُنتج إيماءات جنسية لعيون ناهشة مكبوتة وجائعة، ويضع هذا الملصق شروطًا للمرأة المسلمة وحجابها الشرعي، بأن “يكون ساترًا لجميع البدن، ألا يشبه ملابس الرجال والكافرات، أن يكون واسعًا غير ضيق، ألا يكون معطرًا، ألا يكون شفافًا، ألا يكون معه زينة، ألا يكون لباس شهرة”، وعلى يسار الملصق غرافيك لامرأة منقبة، يُفترض بأنها تُمِثل الهوية الاجتماعية للنساء، كل النساء “الجيدات”.
وبغض النظر عن حق النساء، كل النساء، في حرية الضمير والمعتقد والتعبير عن عقائدهن وتجليه بزي معيّن وبضمنه النقاب، فإن المنطق الذي أنتج وروّج لهذا الملصق يمثل نموذجًا في خلق سياقات عدائية وعنيفة تجاه خيارات النساء بكل تنوعاتهن وتنوع سياقاتهن، والتي لا تتعلق بالملابس فحسب، بل تمتد لجميع خياراتهن ورغباتهن وإراداتهن واستقلاليتهن كنساء حرات، ويُعتبر الملصق أيضًا، نموذجًا عما ينتجه النظام الأبوي، وما يخلقه من تبريرات إزاء العنف الممارَس ضدهن، إن لم ينصعن إلى سلة التعليمات والأوامر تجاه مظهرهن أو حركتهن وتنقلاتهن على سبيل المثال لا الحصر، وفق ما يصنفه الفكر النسوي بثقافة الطهرانية وثقافة الاغتصاب، فيصبحن بالتالي مسؤولات عن العنف ضدهن، باعتبارهن غير ممتثلات للقولبة الاجتماعية ومتمردات عليها، ويتواطأ العنف المجتمعي كعنف بنيوي مدافع عن مركزية الرجال، ليس كل الرجال، بل ممن يصنفهم النظام الأبوي في مصاف الأقوياء والأشداء والفحول مفتولي العضلات و”المحافظين الحكماء”.
يُسوق النظام الأبوي الضبط والرقابة والإخضاع والهيمنة على النساء وأجسادهن في ثنائية قطبها الأول المرأة الجسد، حيث يتكثف البعد الجنسي، والاستباحة والتشييء، فيكون الجسد مصدرًا للاستيهام الفردي والجماعي، مستغلًا في سوق العرض والطلب، طالما هو “جسد مثالي” لا يَهرم ولا يُهزم أمام معايير الجمال الأوروبية المنمطة والاستهلاكية المعولمة، وبالتالي فهي امرأة تستحق النبذ والتسليع والعنف والعقاب.
أما القطب الآخر في هذه الثنائية، فيتجسد في المرأة “الجيدة” وفق نموذجين قائمين على العمر والحالة الاجتماعية، الأول هو الابنة المطيعة الهشة القلقة الحائرة، والثاني هو الأم القوية المتمرسة في إدارة وضبط الأسرة، والحازمة في تطبيق المعايير الأبوية، وبكلتا الحالتين، ووفق النظام الأبوي، تحتاج المرأة إلى وصي، سواء كان فردًا أو مجتمعًا أو دولة، يضبطها ويحميها ويحجب عنها الأذى الخارجي فقط، أما الأذى الداخلي، كالعنف الأسري وعنف الشريك فهو “ضروري أحيانًا” لحماية الشرف والعرض، طالما أنها لا تخفق ولا تتذمر من أدوارها الرعائية، وبالتالي فإن التسويق للجهة التي قامت بإنتاج ونشر الملصق بأنها جهة غير عنفية وغير مسلحة، وبأنها مُحاربة من “هيئة تحرير الشام” في الشمال الغربي، لا ينطبق بالضرورة على العنف والتمييز بكل تقاطعياته ضد النساء والفتيات بكل تنوعاتهن وتنوع سياقاتهن.
كما أن ربط سلة شروط “لباس المرأة المسلمة وحجابها الشرعي” بنمط لباس المنقبات حصرًا، وألا يُشبه “لباس الكافرات”، الوارد في متن الملصق، أمر يفتح باب العنف اللفظي والمادي ضد النساء في الشوارع وداخل المؤسسات بوصفهن كافرات، كالعنف الذي شاهدناه في فيديوهات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد شبان شتموا الذات الإلهية أو الذين تحرشوا لفظيًا بالنساء، فعوقبوا وأُذِلوا في الشوارع من قبل أمنيي الإدارة الجديدة، وهي ممارسات بعيدة عن سيادة القانون، بوصفها جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات السوري.
في المقابل، وردًا على فحوى الملصق أعلاه، انتشرت ملصقات أخرى على جدران محافظتي دمشق وحمص، عنون أحدها بـ”لباس المرأة الحرة”، ورود فيه، “لقد حصلنا على الحرية من أجل الجميع، اختاري عزيزتي ما تشائين من الملابس في سوريا الحرة”، وضم الملصق شروطًا للباس الحر، “ألا يكون مفروضًا عليكِ، أن يكون عاجبك وعلى ذوقك، أن يُشعرك بالراحة والثقة، أن يعبر عن شخصيتك، أن يرضيكِ أنتِ ويناسبكِ، أن يكون باختيارك ورغبتكِ الكاملة، أن يكون ما تريدين”.
أثارت هذه الملصقات حفيظة الذكوريين، ذكورًا ونساء، ممن يتبنون خطاب الأولويات الذي يرى في النضال النسوي والنسائي لأجل نيل حقوق النساء ترفًا ورفاهية في ظل وجود قضايا أكثر إلحاحًا بالنسبة لهم، ولا يدركون موقعيتهم وحجم امتيازاتهم التي حمتهم وحجبتهم عن الصدام مع النظام الأبوي.
لا يمكن قراءة هذه الملصقات بمعزل عن السياق السوري اليوم، فالمقاربة التي يطرحها بعض المدافعين أو المُطَمئنين بأن هذه الحملات لا تختلف عن النشاط الدعوي المسيحي في أوروبا وشمال أمريكا على سبيل المثال، يجردون المشهد من سياقه، فنحن ما زلنا نستكشف أبعاد وتجليات هذه المرحلة الضبابية، ولم نخرج بعد من إرث استبدادي دموي طويل، ولم تتعافَ بعد المجتمعات السورية من الشروخ، وبالتالي فإن القلق النسوي من الهوس بضبط لباس النساء والتدخل بخياراتهن عبر هذه الحملات الدعوية يأتي في ظل فراغ دستوري، وعدم وضوح موقف السلطة الحاكمة من شرعة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية والديمقراطية، وقرابة عقد من مغالاة في التدين من قبل قوى الأمر الواقع ومؤسسات الحسبة بتعدد مرجعياتها الأيديولوجية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :