من الفصائلية إلى بناء جيش وطني

  • 2025/01/19
  • 3:10 م
لمى قنوت

لمى قنوت

لمى قنوت

تنوء الذاكرة السورية بإرث تحويل الجيش إلى أداة لقتل من ثاروا على سلطة وحشية، تلك السلطة التي أعادت هيكلة هذه المؤسسة بتأنٍ عبر عقود من الزمن، فشكّلته ببنية طائفية فاسدة، وقوننة حماية مجرميه من المساءلة، وقدسته، حتى وصلت مصاف قدسيته إلى رفع البسطار العسكري فوق رؤوس عابديه، من النساء والرجال، وتقبيله، كجزء من رمسنة العسكرة في المجتمع، والانتقال من التطبيع مع العنف إلى التحريض عليه، وخلق مناخ أباح للجنود القتل ونهب الأماكن المدمرة دون أي رادع أخلاقي وقانوني.

وكان انهيار الجيش مع فرار رئيسه وبعض أركان حكمه نموذجًا فريدًا عن نخر حثيث لبنيانه، أدى إلى انفراط عقده وشل تماسكه وتبخره دون حتى أن يدافع عن امتيازاته أو يفاوض على جزء منها مقابل المعلومات. وستبقى أسباب انهياره مجال بحث وتحليل تضيف أبعادًا جديدة إلى ما يتم طرحه حاليًا، كعدم رغبتهم في القتال، وضعف دعم الحليفين الرئيسين، الروسي والإيراني، خلال عملية “ردع العدوان”، والفساد المستشري بين صفوفه، وانخراط العديد من قواته بتصنيع “الكبتاجون” الذي وُجد مكدسًا في العديد من المرافق والقواعد العسكرية.

حددت السلطة الجديدة في سوريا انطلاق مسار هيكلة الجيش من تسليم السلاح “للدولة”، وحل جميع الفصائل المسلحة ابتداء من “هيئة تحرير الشام”، وضم من يرغب من أفراد تلك الفصائل إلى وزارة الدفاع، لكن الفصائل المسلحة التي ظهرت بعد 2011 في سوريا لها تاريخ في التنافسية والضغائن فيما بينها، وإرث وازن في الانشقاقات والدمج وإعادة الهيكلة وتغيير الاسم وطريقة تقديمها لنفسها (rebranding)، وعلى الرغم من أن بعضها استقر نسبيًا، فإنها فصائل تشكّل جُلها على خلفيات متنوعة، مناطقية، وأيديولوجية، وإثنية، وطائفية، ولعبت التبعية الخارجية دورًا مهمًا في تنافرها، أو الاقتتال فيما بينها، كما يحصل حاليًا بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و”الجيش الوطني السوري”.

عمليًا وتاريخيًا، في المراحل الانتقالية، لا يمكن فصل بناء الجيش عن مناقشات الحوار الوطني، وعن العدالة الانتقالية التحولية وإحدى ركائزها المعنية بالمحاسبة، والأخرى المعنية بإصلاح المؤسسات والقوانين، وعن عملية بناء الدستور، فهي عمليات مترابطة ومتكاملة، تحدد مسؤولية الجيش، وحياديته عن الأحزاب والأيديولوجيات، وتمنحه استقلالًا مهنيًا ليدير شؤونه، وتؤطر خضوعه للدستور، وتفرض صلاحيات رقابية مدنية عليه من قبل مجلس الشعب، ضمن قضاء مستقل، وفصل للسلطات.

عادة، تعد القيود الدستورية على الجيش مهمة نظرًا إلى احتكاره أدوات العنف، وتوكل له مهام الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية، تجاه أي عدوان، وبنفس الوقت قد يكون الجيش مصدر خطر أيضًا، حين ينحاز لطاغية أو لحزب سياسي، أو حين يقود انقلابًا، وعبر عن هذه الإشكالية الفريد ستيبان (Alfred C. Stepan) حين قال، “بينما يُعد احتكار استخدام أدوات العنف أمرًا ضروريًا للدولة الديمقراطية الحديثة، فإن الفشل في تطوير الآليات التي يمكن من خلالها السيطرة على الجيوش يُمثل تنازلًا عن السلطة الديمقراطية”، وهي معضلة لم تحسمها الدول الحديثة كممارسة سياسية، كدول الشمال العالمي التي مارست أشكالًا من القمع الأمني المعسكر على الحركات الاجتماعية كحركة “حيوات السود مهمة”، ونضال السكان الأصليين البيئي والحراك الطلابي الأخير في الشمال العالمي الذي طالب المؤسسات التعليمية والحكومية بوقف الاستثمار في المشاريع الصهيونية والشركات الداعمة للإبادة الجماعية في فلسطين.

بعض معوقات الانتقال من الفصائلية إلى بناء الجيش:

بداية، أثارت الخطوة الأولى في تعيين وترفيع 50 قياديًا من قادة فصائل عملية “ردع العدوان”، وخاصة للأجانب منهم، حفيظة كثير من السوريين والسوريات، بينما ما زالت المشاورات مع المنشقين عن الجيش في حدودها الدنيا، بالرغم من أهمية الاستفادة من خبراتهم وتكريمهم وجبر الضرر الذي وقع عليهم وعلى أسرهم. كما أن اعتماد الولاء كمعيار رئيس للتعيين والترفيع لا يشكّل أرضية صالحة في بناء جيش احترافي، بل هو نخر في بنيانه يعزز التنافسية والمحاباة في تحصيل المكاسب الشخصية ويكرس الشللية.

إن إعادة هيكلة الفصائل ودمجها ضمن الجيش كأفراد لا ككتل ستحتاج إلى كثير من المفاوضات وبناء الثقة بين جميع الأطراف، والسبيل إليها، خطة واضحة وشفافة قائمة على التشاركية لبناء الدولة، من خلال إطلاق عملية سياسة شاملة تبدأ بالانخراط الفعال في سلسلة من الحوارات الوطنية في كل المحافظات وبمشاركة واسعة من كل مكونات المجتمع وأطيافه، والأحزاب، والمجتمع المدني، والنقابات، وغيرها من المؤسسات والأفراد، دون إقصاء، وتنتهي الحوارات بعقد مؤتمر وطني تُرسم فيه ومن خلال مخرجاته معالم المرحلة الانتقالية وأولوياتها، بحيث تكون ملزمة للإدارة السياسية، ثم تنبثق عن المؤتمر لجنة تأسيسية منتخبة لكتابة الدستور.

مروحة التشدد السلفية المتنوعة المنضوية تحت إمرة “هيئة تحرير الشام” قد تؤدي إلى نشوء خلافات بين تلك الفصائل، التي تعتبر جزءًا من جهادها نشر رؤيتها الدعوية بين السوريات والسوريين، بينما تدرك بعض قيادات الفصائل الأخرى، وعلى رأسها قادة “هيئة تحرير الشام”، أن المرحلة تقتضي البراغماتية والتقية تجنبًا لصدام مع مجتمع سوري متنوع، ومجتمع دولي مراقب يستخدم رفع العقوبات كسيف مسلط على رقاب السلطة الحالية ورقاب السوريين والسوريات. وتسعى قيادة “الهيئة” لتفسير خطابها وسلوكها الجديد لقواعدها بشكل دائم، والتي ربما لم يُتح لها الوقت الكافي لفهم أبعاد التحولات والضغوط الدولية.

لا يمكن التقليل من دور العامل الخارجي وولاءات بعض الفصائل أو تبعيتها لدول لها مصالح قد تقوض السلم الأهلي وبناء الجيش، مثل تركيا وروسيا وأمريكا، وعلاقات خارجية للبعض كعلاقة “الإدارة الذاتية” مع إسرائيل، والتي عبرت عنها إلهام أحمد، رئيسة الشؤون الخارجية في “الإدارة” خلال لقاء أجرته قناة “العربية” معها، على إثر اتصال تم بينها وبين وزير الخارجية الإسرائيلي، بأنهم كإدارة ذاتية معنيون “بعلاقات حسن الجوار” و”استعدادهم للتعاون والسلام في المنطقة”، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال التوغل في الأراضي السورية.

نواجه كسوريات وسوريين جملة تحديات متعددة الأوجه والمستويات لبناء دولة المواطنة المنشودة، تتطلب منا جميعًا العمل السياسي والنقابي المنظم، وهو مسار جمعي تشاركي تراكمي يحتاج إلى نفس طويل.

مقالات متعلقة

  1. عثرات وتجاوزات
  2. عن العدالة الانتقالية في سوريا
  3. سوريا والمرحلة الجديدة
  4. نزع السلاح والتسريح في سوريا بعدسة نسوية

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي