عنب بلدي – هاني كرزي
شهد لبنان تحولًا سياسيًا جديدًا، بعد انتخاب رئيس جمهورية له عقب أكثر من عامين على الفراغ السياسي، تبع ذلك انتخاب نواف سلام رئيسًا للوزراء، ليكتب اللبنانيون بذلك عهدًا جديدًا من أبرز سماته انحسار نفوذ “حزب الله”، ما فتح بوادر انفراجات قد تنعكس على سوريا وسط زحمة من الملفات المعقدة بين البلدين.
عانت سوريا من تبعات هيمنة “حزب الله” على المشهد في لبنان بكل مفاصله السياسية والأمنية والاقتصادية، والتي أرخت بظلالها على اللبنانيين أنفسهم الذين عانوا من الانتكاسات، وآخرها الحرب ضد إسرائيل التي زجّ “الحزب” لبنان فيها، والتي طالت تبعاتها سوريا أيضًا.
وتعرض “حزب الله” لضربات قاصمة خلال تلك الحرب، أفقدته توازنه عسكريًا وسياسيًا، وهو ما استثمرته القوى المعارضة في لبنان لإعادة تشكيل المشهد.
ومن جملة التعهدات التي قدمها جوزيف عون بعد فوزه بالرئاسة، فتح حوار جاد مع الدولة السورية وإقامة علاقات جيدة معها.
علاقات ثنائية أفضل
عقب انتخاب رئيس جديد في لبنان، توجه رئيس الحكومة اللبنانية السابق، نجيب ميقاتي، إلى سوريا، لعقد مباحثات مع قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، تناولت أمن الحدود واللاجئين، وكانت تلك الزيارة اللبنانية هي الأولى من نوعها لمنصب رئيس الحكومة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
وبعد اجتماعهما في قصر “الشعب” بدمشق، في 11 من كانون الثاني الحالي، قال الشرع، إن “سوريا تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات السورية- اللبنانية مبنية على الاحترام المتبادل”.
الشرع قال أيضًا إنه اتفق مع ميقاتي على وجود لجان متخصصة بشأن ترسيم الحدود وملفات التهريب والقضايا الاقتصادية.
من جانبه، قال ميقاتي، إن ما يجمع سوريا ولبنان من حسن الجوار هو الأساس الذي سيحكم طبيعة التعاون في المرحلة المقبلة، معبّرًا عن ارتياحه لمستقبل العلاقات اللبنانية- السورية.
وقال الصحفي اللبناني رامي نعيم، لعنب بلدي، إنه مع تسلم إدارة جديدة في لبنان وسوريا، فإن العلاقات بدأت تتحسن، خاصة أن البلدين أعربا أن كلًا منهما لن يتدخل بشؤون الآخر، ولا سيما أن اللبنانيين عانوا من تدخل النظام السوري السابق بالمشهد الأمني والاقتصادي في لبنان.
ولفت نعيم إلى أن تحسّن العلاقة بين البلدين، سينعكس إيجابًا على الواقع الأمني والاقتصادي في سوريا، حيث من المتوقع أن يكون هناك تعاون تجاري وسياسي وأمني لضبط الحدود ومنع التهريب.
التصريحات السورية- اللبنانية لضبط الحدود بدأت تُترجم على أرض الواقع، إذ أعلنت وزارة الداخلية في حكومة دمشق المؤقتة، عن ضبط شحنة أسلحة تحوي صواريخ كانت معدّة للتهريب نحو الأراضي اللبنانية، من محافظة طرطوس.
وقال المحلل السياسي الدكتور محمد سداد العقاد، لعنب بلدي، إن تغيّر الإدارة السياسية في لبنان وانحسار نفوذ “حزب الله”، يعني أن سوريا ستتعامل مع جهات ذات مسؤولية وليس مع دولة ميليشيات، وهذا يعني أن العلاقات بين البلدين ستكون أكثر استقرارًا وفائدة، وهذا الاستقرار سيكون دافعًا للبلدين للبحث عن مخارج من القضايا المعقدة التي كان حلها في الماضي صعبًا، ولا سيما موضوع ترسيم الحدود ومزارع شبعا وتهريب الأسلحة والمخدرات وقضية اللاجئين.
ودائع تنتظر الإفراج
لجأ كثير من السوريين لنقل أموالهم من المصارف السورية إلى نظيرتها اللبنانية بعد اندلاع الثورة السورية، واستمر الأمر كذلك حتى عام 2019، حين شهد لبنان اختفاء مليارات الدولارات من أموال المودعين اللبنانيين والأجانب على حد سواء.
ولا توجد أرقام دقيقة لحجم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية، ففي حين قدّرها رئيس النظام المخلوع بشار الأسد بـ60 مليار دولار، تذهب تصريحات مسؤولين لبنانيين إلى أرقام أقل من ذلك بكثير.
ونقل موقع “المدن” اللبناني، في تشرين الثاني 2020، عن رئيس لجنة الرقابة على المصارف اللبنانية، سمير حمود، أن حجم الودائع السورية في لبنان يبلغ ثمانية مليارات دولار فقط، من أصل 40 مليارًا هي حجم الودائع الأجنبية.
وعقب سقوط النظام السوري وتغيّر الإدارة السياسية في لبنان، يأمل السوريون باستعادة أموالهم العالقة في البنوك اللبنانية منذ أكثر من ست سنوات.
وقال الباحث الاقتصادي يونس الكريم، إن حل مشكلة الأموال السورية المودعة في لبنان مرتبط بالدرجة الأولى بتوفر الاحتياطي لدى البنك المركزي اللبناني، الذي يفتقر إلى القطع الأجنبي اللازم لسداد الالتزامات المترتبة عليه وخاصة للسوريين، وبالتالي جميع الأموال المودعة متوقفة بسبب عدم استقرار الوضع الاقتصادي في لبنان على المدى المنظور.
وأضاف الكريم لعنب بلدي أن انهيار “حزب الله” وانتهاء المشروع الإيراني في المنطقة، بالتزامن مع تغيّر الإدارة السياسية في لبنان، سيزيد الدعم الدولي للبنان، الأمر الذي سيدفع المركزي اللبناني إلى إعادة الأموال للسوريين بالتقسيط كلما حصل على قطع أجنبي، أو ربما يتفاوض المركزي اللبناني مع المودعين السوريين، بأن يتنازلوا عن 20-30% من أموالهم مقابل استعادة الباقي.
وأشار الكريم إلى أن الودائع السورية في البنوك اللبنانية ملف معقد، ومتوقف حتى بدء المرحلة الانتقالية في سوريا، عندها قد يتم الضغط على لبنان لإعادة جزء من هذه الأموال، لافتًا إلى أن هناك ودائع تعود لبعض رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، وتلك الأموال مجمدة بسبب وجود عقوبات على أصحابها، وبالتالي لا يمكن تحريكها، إضافة إلى أن البنك المركزي اللبناني ما زال يخضع لنفوذ رجالات الأسد الذين يتحكمون بسياسات البنك.
وحول انعكاس المشهد اللبناني الجديد على الواقع الاقتصادي في سوريا، توقع الكريم عدم حدوث انفراجات اقتصادية ملموسة في سوريا قريبًا، في ظل عدم وضوح حجم الصلاحيات التي ستكون بيد الرئيس اللبناني، إضافة إلى أن الجيش اللبناني يعاني من توغل “حزب الله” داخله، وبالتالي الوضع اللبناني ليس مستقرًا، ما يعني أننا سنشهد استمرار الاضطرابات الاقتصادية التي قد تنعكس على سوريا.
وشدد الكريم على أن سوريا ولبنان تعانيان من فساد مستشرٍ، لذلك فإن تحسين الأوضاع الاقتصادية يحتاج إلى إرادة داخلية ودولية حقيقية، إضافة إلى ضرورة وجود دعم دولي عبر تقديم المساعدات الاقتصادية والمشورات السياسية.
ملفات عالقة
عقب سقوط النظام السوري عادت كثير من الملفات التي كانت عالقة بين سوريا ولبنان إلى الواجهة من جديد، وأبرزها ملف ترسيم الحدود بين البلدين.
يبلغ طول الحدود السورية اللبنانية نحو 375 كيلومترًا، وتُعتبر بعض البلدات الحدودية نقاطًا حساسة ومناطق نزاع، بينما هناك مناطق تشهد تداخلًا ثقافيًا واجتماعيًا.
تعتبر مزارع شبعا واحدة من أكثر النقاط الحساسة في النزاع الحدودي بين البلدين مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث يعتبرها الجانب اللبناني خاضعة لسيادته، بينما يعتبرها الجانب الإسرائيلي أرضًا سورية احتلها في حزيران 1967.
ويرى رامي نعيم أن هناك ملفين أساسيين كبيرين بحاجة إلى حل، هما ترسيم الحدود وضبط التهريب بين البلدين، لافتًا إلى أن الملف الأخير بدأ العمل عليه من الطرفين عبر تشديد الرقابة على الحدود لمنع تهريب الأسلحة والمخدرات، لافتًا إلى أن عمليات التهريب قد تستمر، ولكن وتيرتها ستتراجع بسبب التداخل الكبير في حدود البلدين وكثرة التضاريس الجبلية.
وفيما يخص ترسيم الحدود ومزارع شبعا سيتم تأجيل حل هذا الملف، إلى حين استكمال قدرة الحكومة السورية على بسط سيطرتها الكاملة على أراضيها، وتشكيل حكومة فعلية، ومن ثم على الحكومة السورية تحديد مدى استعدادها للتفاوض مع لبنان فيما يخص ترسيم الحدود، وفق نعيم.
بدوره، قال أمين عام الحركة الوطنية السورية، زكريا ملاحفجي، لعنب بلدي، إن هناك 42 اتفاقية موقعة ما بين النظام السوري السابق ولبنان، وأغلب هذه الاتفاقيات جائرة بالنسبة لسوريا، وهناك قسم منها لم يطبق، وعقب سقوط النظام سيُعاد النظر بكل هذه الاتفاقيات وغالبًا ستلغى أغلبها.
وذكرت صحيفة “الشرق الأوسط” أن لبنان وقع مع سوريا 42 اتفاقية أغلبها بعد عام 1990، لكن لم تأخذ طريقها إلى التطبيق، وما طبّق منها صبّ في مصلحة النظام السوري السابق، ومن أبرز تلك الاتفاقيات، “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق”، و”اتفاقية الدفاع والأمن”، و”اتفاق التعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي”، و”اتفاق نقل الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية”.
عودة اللاجئين من الملفات التي يحرص لبنان على حلها كذلك، خاصة بعد سقوط الأسد، حيث كان يستضيف لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري، وغالبيتهم ينحدرون من محافظات حمص ودمشق وريف دمشق، وخرجوا من منازلهم وهي مدمرة أو تعرضت للتدمير في وقت لاحق، الأمر الذي يبطئ مسار عودتهم إلى سوريا.
وكان نجيب ميقاتي قال خلال زيارته الأخيرة إلى سوريا، “لمست لدى أحمد الشرع حماسة لعودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلدهم”.
ويرى زكريا ملاحفجي، أن لبنان حريص على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم بشكل سريع، ويتواصل مع الأطراف الدولية من جهة ومع الإدارة السورية الجديدة من جهة أخرى من أجل ذلك، لكن سوريا تعاني من مشكلات اقتصادية وبنية تحتية مدمرة وفرص عمل ضئيلة، وبالتالي فإن الحكومة السورية لديها مشكلة بعودة اللاجئين في الوقت القريب، وستطلب من لبنان تخفيف الضغط عليهم، وعدم إجبارهم على العودة لحين تحسن الظروف الاقتصادية والخدمية في سوريا.
من الملفات التي ينتظر السوريون حلها مع لبنان، قضية فلول النظام السوري السابق في لبنان إلى جانب قيادات “حزب الله” التي مارست انتهاكات بحق الشعب السوري، حيث تأمل الحكومة السورية أن تتعاون بيروت معها في تسليمهم لها لمحاسبتهم.
إجهاض خطر “حزب الله”
سقوط النظام السوري وتسلم إدارة سورية جديدة من جهة، وتغيّر القيادة السياسية في لبنان من جهة أخرى، إلى جانب الضربات الإسرائيلية، كلها أمور أسهمت بتقليص نفوذ “حزب الله”، وتخفيف حدة خطورته على الواقع الأمني في سوريا.
العماد جوزيف عون أكد توجه الحكومة اللبنانية لحصر السلاح بيد الدولة، وهو ما تُرجم على أرض الواقع، عبر قيام الجيش اللبناني بمداهمة مستودعات أسلحة لـ”حزب الله”، لتجنيب البلد المزيد من الصراعات المدمرة، وهو ما سينعكس إيجابًا على المشهد الأمني في سوريا.
وقال الصحفي رامي نعيم، إنه بعد سقوط الأسد، وتصفية قيادات “حزب الله”، فإن المشروع الإيراني في المنطقة انقطعت أوصاله كليًا، “هناك شرق أوسط جديد، ولا عودة إلى محاولة فرض المشروع الإيراني، وأعتقد أن سوريا ستنعم بالسلام مستقبلًا، لكن قد تشهد نوعًا من الفوضى في الفترة المقبلة، ريثما تستطيع الحكومة الجديدة ضبط الأمن وإقناع السوريين بأدائها وسياستها”.
بدوره، قال زكريا ملاحفجي، إن سوريا ولبنان خرجتا من العباءة الإيرانية، كما أن الحكومة اللبنانية تسعى لحصر السلاح بيد الجيش اللبناني، و”أعتقد أن هناك مساندة دولية لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي الأمور ستتجه للتعافي بين سوريا ولبنان لكن الأمر قد يأخذ بعض الوقت”.