أحمد عسيلي
في كتابه “الأنا والهو” المهم جدًا، الذي وصل فيه فرويد إلى مسافات بعيدة في فهم الذات البشرية وطبيعة صراعاتها، يروي طرفة هزلية شعبية لها دلالة عميقة، أصبحت لها لاحقًا تطبيقاتها العملية في العلاج النفسي، تقول إنه “في قرية ما، كان لا مناص من إعدام أحد الخياطين الثلاثة، لأن الحداد الوحيد بالقرية قد ارتبك جريمة تستوجب الموت”.
رغم سخرية هذه الحكاية وتناقضها الظاهري، ترسم تمامًا مسارات المشاعر الإنسانية، فأي عاطفة يحملها الإنسان (كره، حقد، حب… لا يهم) ستتحول إلى طاقة، هذه الطاقة ستبحث عن طريق للتصريف، والمفاجأة التي طرحها فرويد في كتابه هذا أن “الطريق الذي يسلكه التصريف يبدو عديم الأهمية”، مثل تيار الماء، لن يهمه اتباع مجراه أو أي مجرى آخر يتوفر له، بل سيعمد إلى سلك الطريق المتاح، وغالبًا ما يكون الطريق الأسهل.
يبدو ذلك في البداية أنه اكتشاف بسيط، وهنا تكمن عظمة فرويد، فقد أسهم في شروحاته تلك بشكل كبير في فهم الاضطرابات النفسية وتحولاتها، وجعلنا نستوعب لماذا توجه طاقة الكره (البارانويا) عند المريض أحيانًا نحونا كأطباء.
ولتوضيح هذه النقطة أكثر، سأقص عليكم حكاية مريض راجعني في عيادتي (قصة مرضية تكاد تكون كلاسيكية، مر بها معظم الأطباء النفسيين)، بأمر تحويل من قبل الشرطة الفرنسية بعد محاولة الاعتداء على جاره بدافع مرضي ذهاني، فقد كان يعتقد بأوهام مرضية أن جاره يتربص به ويحيك حوله المؤامرات لإفساد حياته، ولم يكن يملك أي دليل على تلك المشاعر سوى إيماءات وحركات فسرها هو على طريقته. في البداية كان مجبورًا بحكم القانون على مراجعتي شهريًا ولمدة سنة بناء على قرار صادر عن القاضي، وفعلًا كان يلتزم بهذا القرار ويأتي دومًا لجلساته النفسية، ليقص عليّ حقده على جاره الذي يمضي يومه في تدبير المؤامرات ضده، والذي ورطه أيضًا بهذا العلاج الذي يأخذ نصف يوم عمل شهريًا. كان يكرر في الجلسات القصة ذاتها على مدار عام كامل دون ملل، مع حالة وجدانية شديدة التأثر، وكأن القصة حدثت معه أمس ويرويها للمرة الأولى. وحين انتهت فترة العلاج الإجبارية، تابع المريض حضوره للجلسات، رغم أنه لم يكن مضطرًا بعدها لهذا الإجراء، وبدأت تربطنا علاقة من الثقة العلاجية، لدرجة أنه حاول تقديم العديد من الهدايا لي مع رفضي التام لتسلم هذه الهدايا، إذ كنت أعلم منذ البداية أن هذه الثقة ستزول في مرحلة ما، وستتحول تجاهي جميع مشاعره التي كان يوجهها تجاه جاره المسكين، وفعلًا بعد حوالي سنة ونصف من انتهاء فترة العلاج الإجباري (سنتان ونصف من بدء العلاج) بدأ بتوجيه كل حقده نحوي، بداية بشكل متدرج (لن أغوص هنا بشكل أعمق لأشرح آليات تحول تلك المشاعر) ثم شيئًا فشيئًا صارت هذه الجلسات تشكل إرباكًا في عملي، وربما خطورة شخصية عليّ، فعملت على إنهائها بالطرق السليمة.
هذا التحول الذي استغرق سنتين ونصفًا عند هذا الإنسان الذهاني، لكن المتماسك نوعًا ما (فقد كانت لديه أسرة وعمل وحياة اجتماعية شبه طبيعية)، قد تستغرق وقتًا أقل بكثير عند بعض الحالات الفصامية المتأخرة، كحالة مريض راجعني يومًا لأول مرة، وبدأ بالشكوى من طبيبه النفسي السابق الذي “لا يفهم شيئًا بالطب النفسي” مقارنة بي، أنا الطبيب العبقري الذي أكتشف كل أمراضه بجلسة واحدة، وسأعالجه بأفضل الأدوية، وبعد نصف ساعة من خروجه اتصلت بي مديرة المركز الذي أعمل به، لتخبرني أن المريض ذاته طلب تبديلي بطبيب آخر لأني “لا أفهم شيئًا بالطب النفسي”، هذا التحول إذًا قد يستغرق نصف ساعة، أو عدة سنوات، حسب حالة الإنسان ووضعه النفسي والعقلي، وقد يحوله تجاه أشخاص آخرين، لكن سيكون الطبيب غالبًا أحد هؤلاء في مرحلة ما.
طاقة الحقد والكره هذه (وهي طاقة عشق تحويلية كما يراها فرويد) ستبحث دومًا عن مجرى، لا يهم كيف، المهم أن تتصرف.
هذا الكشف الفرويدي، يشرح لنا الكثير من الأشياء التي نعيشها كسوريين هذه الأيام. سأكتفي في هذه المادة بمثالين: الأول هذا الافتراق (بل أحيانًا التناقض) بين الحياة الواقعية ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد كان شتاركه يقول، وهو محلل نفسي هولندي شهير، إن “ما يكبته الناس في المدينة، يظهرونه في مستشفى الأمراض العقلية”، فكل طاقات الكبت والقمع والهوامات، التي لا يمكن أن تتصرف في الفضاء الواقعي، ستجد مكانًا لها في هذا الفضاء الواسع، الذي أصبح (بأحد الأشكال) مكافئًا للمستشفى النفسي، أي مكانًا للتصريف، وقد أشار كثير من السوريين مؤخرًا إلى هذا التناقض بين الواقع والإنترنت، فمن يقرأ حاليًا ما يدور في “فيس بوك”، سيعتقد أن هناك حربًا أهلية في سوريا، مع أن الواقع وحسب شهادة كثيرين (وحسب ما شهدته بنفسي جزئيًا)، قريب جدًا من الحالة الطبيعية، الناس في الأسواق يشترون ويبيعون، حفلات الزواج والموالد، المقاهي طبيعية، وما عزز هذه القناعة، أن كثيرًا من تلك الكتابات، أصبحت متقاربة جدًا بل أحيانًا متطابقة مع ما نسمعه في المستشفيات النفسية، كتعبير عن حالات معاوضة لبعض الخيبات، وهي تسهم (لحد ما) بتخفيض حدة هذا التوتر.
المثال الثاني، وهو أكثر تخصيصًا، ما تابعناه الأسبوع الماضي لحالة ممثل معروف، كان يصرخ بهستيرية على أمن “الهيئة” (بغض النظر إن كانت روايته للأحداث صحيحة أم لا) وما لفت نظري خلال التسجيل، أن أحد أعضاء الأمن يسأل هذا الممثل “ليش عم تعيط؟”، فهذا الشاب شعر وبطريقة تلقائية أن هناك جانبًا مضخمًا من هذا الصراخ، وكان يمكن بكل بساطة لهذا الممثل أن يشتكي على الضابط الذي رفع بوجهه السلاح ويجازيه بهدوء.
لم يدرك هذا الشاب أن هذا الصراخ الهستيري غير موجه له تحديدًا، بل هو موجه لمن يمثلونه من قوى جديدة، وهذه “الأوفرة” هي تصريف لطاقة نفسية مكبوتة، وجدت لها مكانًا للتصريف في تلك اللحظة، فكل انفعالاتنا وعواطفنا ترتبط ببعضها، ويمكن لها أن تتحول من شكل لآخر، وهي بحالة بحث دائم عن طريقة للتصريف كي تعود إلى حالة السواء النفسي، ولو لم تجد، قد تكتفي بالصراخ بكل بساطة.