حل “البعث” وعزل قياداته ضرورة تأسيسية لسوريا جديدة
غزوان قرنفل
تقول الرواية إن حزب “البعث” وافق عام 1958 على حل نفسه امتثالًا لموجبات الوحدة مع مصر، التي فرض فيها عبد الناصر شرطًا بوجوب حل الأحزاب السياسية القائمة في سوريا ليستنسخ ما فعله مع الأحزاب في مصر، وليؤمم بالتالي الحياة السياسية ومن بعدها الاقتصاد وأدواته، وليؤسس فضاء جديدًا ملأه “المكتب الثاني” الذي لا تزال له امتدادات في حياتنا بصيغ وتسميات جديدة.
وتستكمل الرواية فصولها أن حزب “البعث” نفسه كان من أول الموقعين على بيان إعلان الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، ومن ثم أول المتآمرين على شركائه في سلطة الانفصال والانقلاب عليهم عام 1963، ومن ثم الاستئثار بالسلطة منذ تاريخه حتى سقوط نظام الأسد قبل ستة أسابيع فقط.
التاريخ عادة لا يكرر نفسه، لكنه يفعل مع الحمقى الذين لا يتعلمون منه الحكمة والدرس، والحكمة مما جاء في الرواية أعلاه أن حزب “البعث” لم يكن ليستطيع أن يكون في مقدمة الموقعين على وثيقة الانفصال لولا أنه حافظ على بنيته الحزبية وتراتبيتها في الخفاء رغم إعلانه حل نفسه عام 1958، وكيف تمكنت بنيته العسكرية السرية من السيطرة على السلطة والتفرد بها بعد الانقلاب على سلطة الانفصال عام 1963 لولا أنه أخفاها ولم يحلها، وهذا ما يتعين علينا اليوم أن نتعلمه إذا ما تم اتخاذ قرار بحل حزب “البعث” وتجريم الانتماء إليه وفرض عزل سياسي على قياداته.
حتى الآن لم تعلن السلطات السورية الجديدة عن قرار رسمي بحل حزب “البعث”، رغم أن القيادة المركزية للحزب قررت بعد ثلاثة أيام من سقوط النظام، “تعليق العمل والنشاط الحزبي بجميع أشكاله ومحاوره حتى إشعار آخر”، وكذلك “تسليم جميع الآليات والمركبات والأسلحة” إلى وزارة الداخلية، على أن “توضع كل أملاك وأموال الحزب تحت إشراف وزارة المالية، ويودع ريعها في مصرف سوريا المركزي”.
لقد حكم “البعث” سوريا والعراق طوال أكثر من نصف قرن، فما الحصيلة التي تحصّل عليها المواطنون في البلدين سوى تفكيك البنى المجتمعية والبطش بالناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم والاستئثار بالسلطة والثروات والموارد والتصرف بها كملكية شخصية، والدخول في مغامرات وحروب غير محسوبة النتائج، فكانت كوارث على المجتمعات، لا تزال الأجيال الحالية وربما لجيلين أو ثلاثة آخرين، تدفع ثمن ذلك الطيش السياسي والعبث الاقتصادي والسياسات العدوانية تجاه الدول العربية والجوار، فكان أن عاش المواطن مطحونًا بفقره وندرة الخدمات، وتخلف عن سياقات التطور مئات السنين بالقياس إلى دول حديثة النشأة تمكنت من استثمار مواردها وتوظيفها في خدمة شعوبها، فهل يجب أن يقودنا “البعث” إلى يوم البعث حتى ندرك أنه آن الأوان لنقول كفى. لم يعد متاحًا لكم هذا العبث بحياتنا ونهب ثرواتنا والمتاجرة بقضايانا.
بكل بساطة، نحن نطالب السلطة الجديدة بإصدار قرار رسمي بحظر أنشطة حزب “البعث” وجميع الأحزاب المتحالفة معه، فيما يسمى “الجبهة الوطنية”، وفرض عقوبات حازمة على كل نشاط حزبي قد يصدر عن أعضائه ومنتسبيه خلال تلك الفترة، كما أنه يتعين على السلطة الانتقالية التي ستتمخض عن مؤتمر الحوار الوطني تشريع قانون رسمي يقضي بحل حزب “البعث” وجميع المنظمات التابعة له أو المشتقة منه، وفرض عزل سياسي على أعضائه من مستوى عضوية الفرقة وما فوق لمدة عشر سنوات، يحرمون فيها من تكوين أحزاب أو الانتساب لأحزاب قائمة، أو تولي مناصب سياسية أو الترشح لها طوال تلك الفترة. والسبب في ذلك ليس فقط لاشتراكه الجرمي في سياسة النهب المنظم لثروات سوريا، وليس فقط بسبب ذاك الخراب العميم، وليس فقط لفرضه عطالة سياسية على المجتمع السوري طوال نصف قرن وكبح سيرورة تطوره الطبيعي، وليس فقط لارتكابه جريمة خرق الدستور الذي ألغى دوره في “قيادة الدولة والمجتمع”، بل أيضًا وفوق كل ذلك لارتكابه جريمة تشكيل ميليشيات مسلحة واجهت الشعب بالقتل والتنكيل، سواء خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي أو خلال سنوات الثورة، في محاولة منه لإعادة المجتمع السوري إلى بيت طاعته وطاعة السلطة الطائفية التي تلحفت به.
السوريون جميعًا اليوم يواجهون استحقاقات إعادة بناء الجمهورية وسط هذا الخراب الكبير، وهم قادرون على فعل ذلك إذا ما حسنت النيات وصدق العمل. ونحن لا نحتاج إلى معوقات أكثر من تلك التي خلفتها لنا تركة “البعث” ونظامه الطائفي، وأفضل ما يمكن فعله في هذا السياق هو حل هذا الحزب بقوة القانون وتجريم عدم الامتثال، وفرض عزل سياسي على قياداته، لأنه يتعيّن علينا طي صفحة فلول النظام السابق واستلهام العبرة من درسي الوحدة والانفصال ودور “البعث” في كليهما، ودوره بهذا الخراب العميم في كل من العراق وسوريا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :