من أجل الأحياء.. جرح المغيّبين وملفات العدالة المنتظرة
ميمونة العمار
وأخيرًا فتحت أبواب السجون في دمشق ثم في سجن صيدنايا بعد وصول مجموعات مسلحة من الجنوب، والحقيقة أن الرّوايات اختلفت حول هوية المجموعات التي اقتحمت السجن، لم تكن إدارة العمليات العسكرية بالتأكيد.
على أي حال، فقد فُتحت جراحنا من قبل هواة في غرفة عمليات ملوثة استخدمت فيها شتى أدوات العبث، ففي لحظات تاريخية تم تحرير آلاف المعتقلين. كنت أبحث عن وجه أخويّ صهيب وإقبال في مقاطع الفيديو التي تظهر فتح الأبواب، اختلفت تعليقات حامل الكاميرا ليظهر بعضها وكأنه يمنّ على المعتقلين بإخراجهم وآخر كان يكرر كلمة: “اطلع.. اطلع” بطريقة غير لائقة كمن يطلق قطيعًا، دون أن يعير اهتمامًا لخوف المعتقلين وعدم إدراكهم لما يجري وحاجتهم للتوضيحات والتطمينات. لم تكن طريقة تحرير المعتقلين التي ظهرت في بعض المقاطع تراعي الكرامة الإنسانية وكانت بعض المقاطع التي وصلت للحظات التحرير مؤذية بحد ذاتها والتي ربما حصدت ملايين المشاهدات، وكان هذا الحافز الأول لاستمرار توارد مقاطع تتنافس فيما بينها من يحمل أملًا كاذبًا أكبر أو مشهدًا مروعًا أو مؤلمًا أكثر دون أي مراعاة لمشاعر ذوي الضحايا، بدءًا بحبك الروايات حول الطوابق السفلية والسراديب السرية مرورًا بتصوير المفرج عنهم وهم في حالات غير لائقة وبطريقة مهينة لكرامتهم.
لم يرتوِ ظمأ صناع المحتوى بذلك، بل تعداه إلى إجراء المقابلات مع الناجين وذوي المفقودين بطريقة تنتهك الكرامة والخصوصية لمن لا حول ولا قوة له. أحد الناجين لم يكن يقوى على الجلوس، فيرفعُه أحدهم بكلتا يديه. كنتَ تستطيع أن ترى الخوف من الجلاد ماكثًا في نظراته، وصوته المتألم المنكسر يحكي جراحًا لم يزل بعضها ظاهرًا على وجهه، ليسأله من يُجري المقابلة: “كيف كانوا يعذبوك؟!”. آلمني المشهد وأبكى قلبي وتساءلت بدوري: أي حس إنساني يمتلك من تعاونوا على إجراء المقابلة، وأردفت بالدعاء عليهم. هذه المقابلة صعقتني وأعادت لمخيلتي مقابلة أجرتها قناة الدنيا مع وفاء الحلبي الناجية من مجزرة داريا عام 2012، والتي كانت مصابة بحالة إسعافية، فتم إسنادها على أحد القبور لأخذ اقتباس منها تقول فيه إن الإرهابيين قتلوا زوجها وأطفالها.
كان الضغط شديدًا جدًا في اليومين الأولين من الرحلة. صحيح أن المعركة التي قادتها غرفة العمليات العسكرية بدأت قبلها بعدة أيام، لكن اقتراب المعركة من مشارف العاصمة لم يكن في مخيلة أحد من المتابعين. كان لذلك وقع خاص لدى أهالي المعتقلين والمختفين قسرًا مع اقترابها من سجون وأفرع مخابرات ذاع صيتها في الإجرام.
ما أتحدث عنه كان في الحقيقة رحلة لفتح جراح لم تندمل، بل ضمّدت على عجل في غمرة ثورة طال عمرها، ووجدنا فيه أنفسنا في حالة سعي لم يتوقف طيلة ثلاثة عشر عامًا لتقديم كل ما أمكن وجعل التغيير ممكنًا. كان علينا أن نعض على جراحنا ونمضي. لم يكن الرّكون إليها خيارًا ممكنًا.
على مدار سنواتها التي تجاوزت الثلاث عشرة، كان المعتقلون جرح الثورة النازف. ولقد غمرت مشاهد تحرير المعتقلين من سجون حمص وحماة نفوسنا بالبشر، ثم أتت مقاطع فيديو مع سجناء قضوا 13 و14 عاما حُرّروا من سجن السويداء، وأخبار عن محرّرين آخرين كان خبر وفاتهم قد زُفّ لأهلهم سابقًا. أحيا كل ذلك آمالًا جديدة باحتمالية أن نجد الكثير من أصدقائنا الذين وصلت قوائم بإعدامهم، يخرجون أحياء يُرزقون. تتابعت الأحداث والصور ومقاطع الفيديو بسرعة لم تسمح بكبح الأمل، ويقولون إن “الغريق يتعلق بقشة”. كان هذا حال مئات الآلاف من ذوي المعتقلين.
في اليوم التالي على تحرير السجناء، 9 كانون الأول/ديسمبر، توالت فيديوهات وتقارير لـ”إعلاميين” و”صحفيين” من الأفرع والسجون تظهر فوضى عارمة تعصف بأكوام من الوثائق والمستندات والأدلة في أماكن كانت منذ ساعات ساحات جرائم ارتكبت على مدار سنوات طويلة. جعلني المشهد أفقد تماسكي وأعلن بغضب وبصوت أشبه بالبكاء أن على أحد وقف هذا الجنون! حاولت فعل شيء، أيّ شيء. تواصلت مع جميع من أعرفهم من أصدقاء في الدفاع المدني، ورابطة صيدنايا، والشبكة السورية لحقوق الإنسان، وغيرهم. أخبرني بعضهم أنهم وجهوا نداءات لإدارة العمليات العسكرية لحماية السجون منذ الصباح وهم في انتظار الاستجابة، لكن صور وفيديوهات وأخبار فوضى وضياع الوثائق ومقابلات الإعلاميين من داخل السجون استمرت بعدها لأيام وأيام وأيام، رغم تواصل النداءات، إلى أن جاء دور عصابات السرقة و”المعفّشين” طالما أن “حماة الديار” غائبون، ليقوموا بنهب الأبواب والنوافذ والأثاث في سجن صيدنايا، حتى لم يسلم حديد التسليح الذي برز أثناء حفر الأرضيات بحثًا عن معتقلين. وذلك وفق شهادة نقلها دياب سريّة، المدير المشارك في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا. بعدها بيومين تم تأمين السجن أخيرًا ومنع الدخول إليه في 29 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وأتأمّل، أي عبث وأي فوضى تُرك لها الناجون وذووهم وذوو المفقودين والسوريون في العموم! تُرِك السوريون ليتماهوا مع الفوضى والشائعات ويعتادوا على تجرعها وتناقلها، ويطبّعوا مع انتهاكات أخلاقية تتضمن امتهان كرامة الضحايا وعائلاتهم ودوس الحقوق، والأمل والحقيقة، بعد أن بذلوا في سبيلها بحورًا من الدم.
وردت أخبار متفرقة منذ اعتقال أخويّ صهيب وإقبال وعمي يوسف وقريبنا بلال كوشان، الذي كان يقيم معهم، واعتقلوا جميعًا بمداهمة منزلهم. لم تكن قط معلومات رسمية، فلم يمكن التحقق منها أبدًا. كان آخر ما وصلنا عن أخي صهيب خبرًا من مفرج عنه، قال إن أخي كان معه وأنه حُوّل إلى سجن صيدنايا عام 2017 وحكم بالسجن المؤبد في تشرين الأول/أكتوبر 2020 حيث كانًا معًا في جلسة النطق بالحكم في محكمة الإرهاب، ولم يتسن لنا التحقّق من صحّة المعلومات بأيّ وسيلة. أرسلنا من يبحث في سجلات المحاكم في القضاء العسكري والمدني ولم نجد أي أثر. يصرّ والدي أن أخوتي لم يكونا في صيدنايا قط، وأنهما على الأرجح قضيا في مجزرة حفرة التضامن والتي حدثت في منطقة قريبة من مكان إقامتهما في دمشق، وفي وقت لاحق بعد اعتقالهما صباح يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2012.
خلال كتابتي لهذا النص، وصلتنا أخبار جديدة من شخص يدعي إنه أفرج عنه من فرع فلسطين بعد تحرير دمشق، وأنه كان ينام إلى جانب أخي صهيب الذي حمل الرقم 243 لثلاثة أشهر في المهجع رقم 18، وأن إقبال كان في المهجع رقم 16 قبل أن يتم تحويلهما إلى صيدنايا في أيلول 2024. لم يزودنا المفرج عنه بمعلومات إضافية عن أخويّ أو أي علامات قد تشير إلى أن من ذكره كان أخي حقًا. في المحصّلة، لم يخرج أخواي أو عمي أو أي من أقاربي المختفين العشر من أي من السجون أو الأفرع الأمنية التي فتحت، ولم نجد اسم أي منهم في أي من سجلات الوفيات التي تم تداولها إلى الآن.
لطالما كذّب السوريون روايات النظام حول وفاة أبنائهم في ظل عدم تسليم الجثامين إلى الأهالي، ولقد ثبت زورها في عديد من المرات. كانوا يحلمون بخروج أبنائهم أحياء رغم روايات التعذيب والظروف المروعة التي وضع المعتقلون فيها، والتي تجعل نجاة أحدهم بعد سنين طوال معجزة حقيقية. واليوم، يواجه السوريون حقيقة واحدة: فرغت السجون، ولم يخرج أحبابهم.
كثرت الشائعات والسرديات الخيالية عن مصير المعتقلين، وفي عين الوقت، بدأت الأرض تحدّث أخبارها، ولم تزل تكتشف تباعًا مقابر جماعية في أرجاء متفرقة من البلاد. لم نعلم يومًا يقينا أي سجن ذلك الذي غُيّب فيه أحبابنا، واليوم يحار السوريون أي مقبرة جماعية تلك التي تضم رفات أبنائهم.
الحقيقة الوحيدة التي نعلمها هي أنهم لم يزالوا في عداد المفقودين. نحتسبهم عند الله كانوا أحياءً أو أمواتًا، لكننا نحتفظ أيضًا بحقنا في كشف المصير ومعرفة الحقيقة. وردتني عشرات الرسائل بعد “التحرير”. رسائل تسأل عن مصير المفقودين، رسائل تبارك بالنصر وتهلل للحرية، وأخرى تتقدّم بالعزاء، وغيرها تسأل عن عودتنا للعمل في المناطق المحررة. لم يبدُ أي منها بالنسبة لي مناسبًا ليخاطب ما أمرّ به. أعرضت عن الرد عليها لوقت طويل كنت أختنق فيه بعجزي عن التعبير. واحتفظت بإجاباتي الحقيقية لنفسي.
نعم، فبالنسبة لي من المبكر الحديث عن الحرّيّة أو النّصر. يمكننا الحديث عن الخلاص من الطّاغية وبعض زمرته من المجرمين، لكن النّصر لا يتحقّق إلا بتحقيق أهداف الثورة والوصول لدولة الحرّيّة والعدالة والكرامة الإنسانية.
أنا آسفة لأقول إن فرحتي بالخلاص التي لم تدم إلا سويعات قد تحولت إلى فاجعة كبيرة أمام هول مصيبتنا بالمفقودين. هو جرح مستمرّ لم يُشفَ، ولا يساعدنا على الشفاء، بل ينكأ فيه، إنكار مشاعرنا والإعراض عن آلامنا. عذرا فضل شاكر! فجرح معتقلينا المغيبين لم يُشفَ. جرحنا هذا فيهم سيعيش معنا طويلا جدا.
في علاج الصدمات، يقول المختصون إنه يجب تحقيق مجموعة من الاستمراريات على صعد مختلفة في حياة الأشخاص ليتمكنوا من تجاوز الأحداث الصادمة إلى حياة أكثر توازنًا. تبقى الاستمرارية الإدراكية في حالات الفقدان الغامض كالإخفاء القسري، صعبة التحقق لأن الحقائق المرتبطة بحادثة الفقدان مبهمة. الفقدان الغامض، كما وصفته الدكتورة بولين بوس، يشير إلى حالة من الحزن المستمر الناتجة عن غياب شخص أو شيء مهم دون وضوح أو تأكيد نهائي، مما يجعل عملية التكيف والتأقلم تحدّيا معقّدا.
الاحتفال حق لكلّ من يريد، لكن في كلّ مرة تحتفلون فيها، تذكّروا أمّهات المفقودين وذويهم، من ربما سيقضون آخر أيام حياتهم في انتظار خبر عن مصير أحبّتهم ومعرفة حقيقة ما حصل لهم. ولا يغيب عن ذهني وأنا أطالب بالكشف عن مصير أخوتي وأقاربي الذين غيّبهم النّظام السوري البائد، أننا لا نكاد نسمع اليوم أصوات الكثير من الأهالي الذين غُيّب أحبابُهم على يد جهات أخرى، خاصة على يد فصائل المعارضة سابقا، فهؤلاء اليوم ممن لا بواكي لهم. هؤلاء يحتاجون للاعتراف بفاجعتهم بداية.
لا يساعد في التئام جراحنا شعورنا بأن أمر المفقودين ومئات الآلاف من ذويهم لم تكن حتى في درك سلّم الأولويات لدى المسؤولين الجدد، إذ لم يتطرقوا لما يعملون عليه في هذا الصدد في أي من خطاباتهم أو تصريحاتهم إلى اليوم، فضلًا عن الاستجابة الفاترة والمتأخرة جدّا جدّا لنداءات المنظمات والناشطين العاملين فيه وكأن الموضوع لا يعنيهم. هذا إذا لم أقل إنّ عدم المبادرة لإنشاء آلية وطنية مخصصة أو اتخاذ موقف متباطئ في الاستجابة للدعوات لإنشائها وتفعيلها، يصبّ في إطار عرقلة الجهود الرامية إلى تحقيق مسارات العدالة والمحاسبة.
لا يمكننا قبول ردود من مثل: “نحن نهتم بالأحياء أكثر من الأموات” كذريعة لعدم التصرف وفق الأولوية والسرعة التي يستدعيها هذا الملف، لأن العمل عليه هو بالفعل من أجل الأحياء يا سادة! لا أخفيكم شعوري بالغضب وخيبة الأمل بسبب عدم التصرف بما يرقى لحجم التضحيات والآلام التي ينضوي عليها هذا الملف والأهمية القصوى للتحرك العاجل الذي كان ولا يزال مطلوبًا في وجه الفوضى والضياع. ليس ذلك فحسب، بل إن عدم التحرك في ملف المحاسبة والعدالة، يغذّي مشاعر الغضب والحقد ويفتح الأبواب للثأر الشخصي والانتقام الفردي، ويؤسس للفتنة والاقتتال الأهلي. وفي المقابل فإن بيان الموقف الواضح الداعم للضحايا وذويهم ولجميع جهود العدالة والمحاسبة، لهو جدير ببناء الثقة بالإدارة الجديدة. إن الوقوف على التجاوزات والأخطاء الفرديّة منها والمنهجيّة ووضع حد لها، ضروري لضمان المساءلة. كما ينبغي القيام بخطوات عاجلة ومهمة لإظهار أن معاملة المعتقلين سابقا في سجون إدلب والمعتقلين الحاليين وظروف احتجازهم تصنع قطيعة مع أشكال القمع السابقة، مع ضرورة توفير إشراف قضائي للمعتقلين وتمكين مراقبين مستقلين من زيارة السجون. يحتاج السوريون اليوم تطمينات أنّ عجلة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري لن تدور مرّة أخرى.
ذوو المعتقلين المفقودين اليوم بحاجة لإجابات، لا نقول إجابات عن مصير أحبابهم فحسب، فهذا هو الهدف النهائي المنشود لهذه المطالبات. نحن اليوم بحاجة لتأكيد التزام السلطة الانتقالية الواضح والعلني بتأمين الأدلّة وجمعها وحمايتها، بما فيها مواقع المقابر الجماعية والسجلّات والأرشيفات الحكومية. نحن بحاجة لتوضيحات حول جميع الجهود لكشف الحقيقة وتقديم الإجابات للعائلات والتي تقوم عليها جميع الجهات المعنية وعلى رأسها الإدارة الجديدة وكل إدارة ستأتي بعدها. نحن بحاجة لأن نسمع هذه التطمينات مباشرة من القادة الجدد عبر منصات إعلام رسمية مرئية وموثوقة، ثم أن نلمس خطوات حقيقية وجادة في هذا المسار.
بدأت كتابة هذا النص في اليوم الرابع عشر بعد سقوط النظام في دمشق. كنت أشعر أنني تأخرت كثيرًا. كان الزخم الناجم عن اختلاط المشاعر والأفكار -والأخبار بالطبع- وما تبعه من إرهاق جسدي ونفسي، فضلًا عن المسؤوليات المتعددة وعدم الاستقرار اللوجستي والمعنوي، كفيلًا بعرقلة أي محاولة للتعبير (كنت قد تعرضت لسرقة حاسبي المحمول في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي). لعل ما سبق ينطبق على كثير من السوريين، في خضم التغيّرات الكبيرة في المشهد السوري، إلا إن مقابلة محاولاتي الأولى للتعبير بالرفض وعدم التقبل، نجم عنها إحساس أعمق بالوحدة تصل حد الاختناق، ما جعلني أنكفئ على نفسي لأيام. كنت أمر بحالات متفاوتة من الحزن والإحباط، وبين محاولة المتابعة حينًا والشعور بأنه لم يعد مهمًا أن أكتب حينًا آخر. عدت للمتابعة المتقطعة في اليوم السابع والعشرين لأنهي النص في اليوم الثلاثين. الكتابة هي فعل مقاومة وهي وسيلة للسيطرة في مواجهة العجز الذي يضعنا فيه جرح المغيّبين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :