عن العدالة الانتقالية في سوريا
لمى قنواتي
بالتزامن مع انشغال السلطة السورية الحالية في تثبيت أركان حكمها بمؤسسات الدولة، وإرسال رسائل تطمينية للدول، يخوض مجتمع الضحايا والناجين نضالًا مريرًا في البحث عن حقيقة ما جرى لأحبائهم، ويخوض بعضهم غمار البحث عن أطفال وطفلات ضحاياهم، الذين أخفوا قسرًا أيضًا مع أسرهم، وأخفي نسبهم بعد أن وزعوا على مراكز رعائية، بتواطؤ مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كحسان العباسي شقيق الدكتورة رانيا العباسي، التي اعتقلها النظام البائد وزوجها مع أطفالهما الستة من منزلهما في 11 من آذار .2013
تغفل السلطة المؤقتة أهمية الدور المؤسساتي للدولة في التمهيد لمسار وطني للعدالة الانتقالية التحولية في سوريا، ودعم مجتمع الضحايا والناجين والمجتمع المدني المعني بالعدالة الانتقالية، في إنفاذ الحق في معرفة الحقيقة، والعمل الحازم لوقف الانتهاكات في أثناء البحث عن المجرمين، وأهمية تشكيل لجنة قانونية مؤقتة، مستقلة تمامًا عن الإدارة الجديدة وجميع الفصائل، مؤلفة من قانونيين ومحامين، من النساء والرجال، مشهود بكفاءتهم وحيادهم ونزاهتهم للتحضير لمحاسبة المحتجزين المتهمين أو المشتبه بتورطهم في جرائم وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، واستجوابهم بشأن مصير المختفين قسرًا والمعتقلين والمعتقلات، وسلاسل الأوامر والتعليمات والمسؤولين عنها، وعن الجرائم والانتهاكات ومراكز الاحتجاز والمقابر الجماعية، وذلك بعد سد الفراغ الدستوري الحالي، والانتقال من الإدارة المؤقتة إلى إدارة انتقالية، إن لم تمدد سلطتها.
تتيح هذه التحقيقات الأولية دراسة الملفات والوثائق الضخمة الموجودة في مراكز الاحتجاز ومؤسسات الأمن وغيرها من المؤسسات لإنقاذها من التلف والضياع والسرقة، بالتعاون مع هيئات مختصة، وبالشراكة مع المنظمات الحقوقية المعنية بالتوثيق والعدالة الانتقالية والأفراد ذوي الخبرة في تلك المجالات، بالإضافة إلى التعاون مع المؤسسات الدولية، كالمؤسسة المستقلة للأمم المتحدة المعنية بالمفقودين، واللجنة الدولية لشؤون المفقودين والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)، واللجنة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن سوريا وغيرها من اللجان والمؤسسات الأممية ذات الاختصاص.
وبنفس الوقت، على مجتمع الضحايا والناجين والناجيات، ومنظمات حقوق الإنسان والمعنيين بالعدالة الانتقالية التحولية، البدء بالتشاور والتحضير لمسار وطني للعدالة الانتقالية، لا يستثني أيًا من مرتكبي الجرائم والانتهاكات، وفتح حوار مع الإدارة الحالية وما يليها من إدارات، لتشكيل هيئة وطنية للمفقودين والناجين، نساء ورجالًا، ولتوضيح أهمية مسار العدالة الانتقالية التحولية، كمسار إلزامي لبناء السلام العادل والمستدام، من أجل معالجة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان للنساء والرجال، وترميم الانقسام العمودي في المجتمع، ووضع حد لمنهجية الإفلات من العقاب، وعدم تكرار الجرائم والانتهاكات.
إن العمل على عدالة انتقالية تحولية، يتطلب أيضًا الإقرار بالأثر المركّب والمتعدّد المستويات الذي طال، ويطال، النساء والفتيات بتنوعاتهن وتنوع سياقاتهن قبل وخلال وبعد انتهاء النزاع، وتقاطعاته مع أشكال العنف ضدّهن، ويتطلب منا، كمدافعين ومدافعات عن حقوق الإنسان، رسم رؤية استراتيجية لتوأمة العدالة والسلام والمساواة الجندرية كسبيل أمثل للانتقال من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي يلتزم بشرعة حقوق الإنسان، ويصحح هياكل السلطة المبنيّة على اللامساواة في المجتمع والقوانين ومؤسسات الدولة وصنع السياسات، ويعمل على تعزيز سيادة القانون، وبناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة.
إن التفكير في بناء نموذج سوري للعدالة الانتقالية التحولية يضع رؤيته وبصمته في كل مفصل من مفاصل بناء الدولة، ابتداء من رؤيتنا للأمن الذي نريده، وبأن الفرد هو المرجع والموضوع الأول للأمن، فلا تمتهن كرامته من أجل أمن الدولة، بل إن الدولة وُجدت لحماية كرامة وحرية الإنسان، وفهم الأبعاد الجندرية المتغيرة للأمن من خلال تجارب النساء وخبراتهن واحتياجاتهن، مرورًا ببرامج جبر الضرر الفردية والجماعية، بوصفها ركيزة من ركائز العدالة الانتقالية التحولية، وربط الجماعية منها بالتنمية، من أجل ترميم الفجوة التنموية بين المدن السورية، وخصوصًا المدن التي أفقرها النظام البائد عمدًا لعقود، والمناطق التي دمرها جراء العنف السياسي ومنهجية الاضطهاد والعقاب الجماعي الذي أدارته الدولة وحلفاؤها بعد عام 2011، كأساس لنزع فتيل أي صراع في المستقبل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :