خمر وأمر.. وحماية أقليات

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

لا نعرف سببًا واحدًا وجيهًا لانشغال الرأي العام الذي تخاطبه بعض وسائل الاعلام العالمية بمسألة معاقرة الخمر، وعمّا إذا كانت الحكومة السورية الجديدة ستقوم بمنع هذه المسألة، بما يشكل اعتداء على الحريات الخاصة بحسب هؤلاء، وكأن هذا الأمر هو شغل شاغل السوريين بعد أن طحنتهم آلة البطش العسكرية والأمنية للنظام المافيوي السابق، وهجّرت نصفهم تقريبًا، بعد أن دمرت حواضرهم ومدنهم واقتصادهم وسبل عيشهم!

كان ذلك واحدًا من الأسئلة التمهيدية في مقابلة شبكة “BBC” مع أحمد الشرع، القائد الحالي لسوريا الجديدة، وكان ذلك، وفق ما هو متداول، سؤالًا لواحد من ناشطي المجتمع المدني السوري الذين قابلوا الشرع مؤخرًا، وكأن تلك المسألة واحدة من أهم القضايا التي على السوريين تبيّن موقف الإدارة الجديدة منها، بينما يعيش 95% من السوريين تحت خط الجوع والعوز بكثير.

هذه المسألة، ورغم أهمية تبيّن ملامح السياسات العامة التي ستنتهجها السلطة الحالية، ليست هي معيار الحكم الموضوعي على الوجهة العامة التي تتوجه إليها سوريا الجديدة، فهناك الكثير من الملفات والقضايا التي يتعين مناقشتها، وهي أكثر أهمية وجوهرانية في فهم السياق والإطار العام للسياسات التي ستسير السلطة الحاكمة على هديها بإدارتها للسلطة في سوريا الجديدة، وأعتقد أن هذا ما يتعين على ممثلي المجتمع المدني الحديث فيه وبشأنه، فمسؤوليتهم تجاه بلدهم ومستقبله أكبر كثيرًا من أن يحاول البعض تتفيهها بالحديث عن منع أو إباحة معاقرة الخمر.

بطبيعة الحال، الشرع لم يعطِ إجابة لمراسل “BBC” كان يأمل انتزاعها منه، وأحال الأمر إلى القوانين وما تنص عليه وامتثال السلطة لنصوص تلك القوانين، وأزعم أنه لم يجب هذا “الناشط” عن سؤاله الوقح أيضًا، وغالبًا أحاله لنفس الإجابة.

على أي حال، أود أن أغلق الباب على هذه الزاوية بالقول، ليست وظيفة القانون إباحة ما هو محرّم، ولا تحريم ما هو حلال، القانون هو الوسيلة التي تنظم بها ممارسة الحريات والحقوق وحمايتها، وليس أداة إكراه على فعل لا يوجب القانون إتيانه، ولا أداة إكراه على امتناع عن فعل لم يوجب القانون الامتناع عنه، وهذا المبدأ ينطبق على الحاكم والمحكوم معًا، وهو ما يمكن تسميته بمبدأ سيادة القانون. إذًا، فلينصرف الجهد إلى التمحيص في منظومة الحريات الخاصة والعامة التي يتعين تضمينها في الدستور، لأنها المظلة التي سيتم كل تشريع قانوني تحتها، فذلك أنفع وأنجع لسوريا الجديدة ولكل السوريين، بدلًا من الجدال في سفاسف القضايا وهراء القول.

على المقلب الآخر، لا يمكننا تجاوز وقائع زيارة “المبعوثين”، وزيري خارجية فرنسا وألمانيا، دون التعليق على ما أثاراه بشأن الأقليات وحمايتها وحقوقها بشكل صفيق، فأولئك الذين صمتوا طوال 14 سنة على قتلنا وسحلنا واستباحتنا لا يحق لهم اليوم التشدق بوجوب حماية حقوق الإنسان والأقليات، ولا يمنحهم الأحقية بمطالبة السوريين الآن باحترام حقوق الإنسان التي تعاموا عنها طوال عقد ونصف، باعتبارها لا تمس تلك “الأقليات”.

مفهوم “حماية الأقليات” في سوريا محض تدجيل سياسي ومتاجرة بالأقليات من قبل من يسعى لتوفير حماية مزعومة لها، فسوريا ربما من الحالات النادرة بالعالم التي اضطهدت فيها الأكثرية واستبيحت على يد أقلية طوال نصف قرن، وتلك الأكثرية كانت أحوج ما تكون للحماية، لكن أولئك الذين يبيعوننا اليوم بضاعتهم البائرة وقفوا متفرجين، بل وحتى قبل أسابيع فقط من إسقاط طاغيتهم المدلل، شرعت سبع دول أوروبية في تطبيع علاقاتها مع القاتل والمضطهد لتلك الأكثرية.

ليست وظيفة الدولة حماية الأقليات وحقوقها فحسب، بل وظيفة الدولة إسباغ الحماية على كل مواطنيها مهما كانت هوياتهم الأخرى ما دون السورية، فهوياتهم الإثنية والدينية والمذهبية أشياء تخصهم وحدهم، لكن في علاقتهم مع الدولة هم مواطنون كباقي أقرانهم السوريين، وحده الدستور من يكرس حقوقهم ووحده القانون من يحميها.

على أي حال، السوريون جميعًا أمام الامتحان الصعب الآن، وهم يعملون لتأسيس جمهوريتهم الجديدة، فإما أن يحاول البعض العودة بنا إلى دولة الرعية ونفقد جميعًا حقوق المواطنة، ونضيع جميعًا في تيه لا قرار له، أو أن تتضافر الجهود لنفتح نافذة على العصر والنور، ونؤسس لدولة القانون والمواطنة التي ليس فيها مغضوب عليهم ولا ضالون، ولا رعايا ولا ذميون.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة