أحمد عسيلي
كان للسقوط العسكري السريع لنظام بشار الأسد وقع الصدمة في نفوس الكثيرين، فحتى أكثر المعارضين تفاؤلًا كانوا يتوقعون مقاومة لعدة أشهر، بل وربما لسنوات، في دمشق على الأقل (هذا ما ذكره مؤخرًا حتى أحمد الدالاتي في مقابلته مع إبراهيم حميدي)، خاصة أن دمشق كانت محصنة من قبل “الفرقة الرابعة” بقيادة ماهر الأسد شخصيًا، القائد العسكري العنيف جدًا، كما تصفه معظم الصحف العالمية، لدرجة أن الثورة السورية نفسها لم تكن حدثًا يستحق منه “خلع البيجاما”، كما كان يردد مؤيدوه في بداية الثورة، ليختفي هذا القائد، وتتبخر قوة فرقته حتى قبل وصول قوات “ردع العدوان” إلى دمشق، ويتحول قادتها الذين أرعبوا البلاد على مدار عقود إلى متسولين في شوارع بيروت وبغداد يتوسلون العفو والصفح.
حالة ماهر الأسد، الذي لم يظهر يومًا على الإعلام، ولم يسبق أن ألقى أي خطاب، ربما تكون أفضل من رجل الأسد الآخر (سهيل الحسن)، الذي رويت عن بطولاته ودهائه الكثير من الحكايات، لدرجة منحه لقب “النمر” لشجاعته وحنكته العسكرية، لقب سرعان ما سقط بعد ظهوره الإعلامي في عدة مقابلات، فكشف لنا عن شخص ضعيف، متردد، عاجز عن صياغة جملة ذات معنى، صورة لا تتوافق أبدًا مع ما رسمه له النظام الأسدي، ربما يكون هذا الكشف أيضًا مقصودًا، نتيجة تصاعد شعبيته في حاضنة بشار الشعبية بإحدى مراحل الثورة.
نستطيع إذًا أن نتوقع حالة بقية القادة العسكريين في جيش الأسد، إذا كان سهيل الحسن هذا هو الأكثر كاريزما، لذلك تلاشى هذا الجيش بسرعة عند أول معركة حقيقية، وقد توقع مؤيدو الأسد، بل وحتى الكثير من المعارضين، ظهور بعض القادة وتشكيلهم جيوبًا من المقاومة بعد سقوط بشار، على شاكلة عزة الدوري في العراق مثلًا.
هذه السرعة في الاندحار، لم تكن الأولى، فالسيناريو نفسه عشناه في 2013، عندما وصلت بعض الفصائل حتى ساحة العباسيين، وهددت النظام بشكل جدي، لولا التدخل السريع لقوات “حزب الله”، وعشرات الفصائل الإيرانية، وقد نقلت صحيفة “التايمز” عن أحد قادة “حزب الله” وقتها، أنه لولا تدخل الحزب لسقط النظام خلال ساعتين، تصريحات سمعنا ما يشابهها من نصر الله نفسه.
فكيف نفسر سيطرة هذا الجيش المهترئ على البلاد لعدة عقود؟
ضعف النظام عسكريًا، وعدم قدرته على القيام بأي عمل ضد إسرائيل، واحتفاظه بهذا الحق على مدى عقود، لدرجة أصبح فيها مصدر سخرية حتى من قبل حلفائه، صاحبته قوة مخابراتية جبارة، استطاعت بث الرعب بين الناس، فلو ركزنا في أهم حادثتين نقلتا عن ماهر للتدليل على جبروته، صفعه لبثينة شعبان وإطلاقه النار على فاروق الشرع، لوجدنا أنهما حدثتا في أضيق دائرة للنظام، ولا يمكن لأي جهة خارجية التأكد من صحتهما، هذا ليس مدعاة فخر على كل حال، فبالنهاية هو مجرد اعتداء على امرأة ورجل كبير في السن، لكن ذلك أسهم في بث الخوف من هذا الشاب الطائش المجهول، وبعيدًا عن شائعات المخابرات، إذا حاولنا قراءة شخصية ماهر من خلال ما توفر لدينا من صور ومقاطع فيديو، فأوضح سمة له هي عدم الثقة والهشاشة، يمكننا مثلًا تحليل صورته التي جمعته مع والده ومعمر القذافي وبشار، التي نشرها موقع “إندبندنت عربي”، فهي تكاد تنطق لكل مهتم بقراءة لغة الجسد، ربما كان وقتها طفلًا نوعًا ما، لكن آخر مقاطع تصوير رُصد فيها لا تختلف كثيرًا عن تلك الصورة، وقد أشارت بعض وسائل الإعلام إلى هذه المفارقة، الشيء الوحيد الذي قد يكون صحيحًا، هي قمعه لاعتصام سجن “صيدنايا”، وهو ما يتماشى مع شخصيته، لأن الاعتصام قام به مساجين لا حول لهم ولا قوة، أيضًا صورته وهو محاط برجاله ويطلق النار على المتظاهرين، كانت في أيام الثورة الأولى وفي مرحلتها السلمية، بالنهاية تعتبر عملية بث الرعب لعبة النظام المفضلة وملعبه، فماهر هو الشخصية التي تتصدر قوائم الشخصيات المرعبة التي صاحبتنا كسوريين وطاردتنا حتى في كوابيسنا، وقد كان النظام يتعمد كل فترة القيام بعملية قمع هنا، أو جريمة قتل هناك، كي تزداد حالة الخوف عند الجميع، وفي مقابل هذه الحالة داخليًا، استطاع رسم صورة مشرقة له في الخارج، من خلال شبكة واسعة من العلاقات مع أحزاب اليمين واليسار المتطرف الأوروبية بل والعربية، وتصوير نفسه كإحدى جبهات المقاومة ضد الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وعقد مصالح مع الكثير من الفنانين وشركات الإنتاج الإعلامية، واستجلاب الكثير من الأسماء الفنية المعروفة لتغني لنصره على السوريين، فنظام الأسد لم يكن يومًا نظامًا قويًا عسكريًا، وإنما متماسك مخابراتيًا، وبقيت مخابراته متماسكة حتى بعيد لحظات السقوط، لدرجة أظهرت تفاوتًا كبيرًا بين تلك القوتين، وصلت لدرجة كوميدية في بعض المواقف، وحتى الآن، لا يوجد أي خطر لاحتمال مجابهة عسكرية مع أنصاره، فهم لم يكونوا يمتلكون تلك القوة في أكثر لحظاته جبروتًا، لكن خطورة تهديداته الأمنية ما زالت قائمة رغم كل ما تعرضت له تلك الأجهزة من انهيارات، فهي ما زالت موجودة، وقادرة على توجيه ضربات عديدة للنظام الجديد.
النظام انتهى عسكريًا، هو لم يكن له وجود أساسًا، فنحن نعيش بلا جيش حقيقي منذ سنوات، لكن أجهزته الأمنية أقوى مما نتخيل، وما زالت قادرة على العمل، ونافذة الريح هذه للأسف لم تُغلق بعد، ولا أعتقد أن بالإمكان إغلاقها عما قريب.