عنب بلدي – حسام المحمود
مع انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد المخلوع وهروبه إلى موسكو، عادت إلى الواجهة الأغاني والأناشيد الثورية التي كان بريقها في تراجع على مدار السنوات الماضية.
ولعل المتغيرات الملموسة وحالة الإحباط السياسي في صفوف أنصار الثورة قبل 8 من كانون الأول 2024، قادت إلى اتجاهات أخرى، إذ انحصرت المساحات المحررة من النظام السوري بمحافظة في الشمال وبعض الأرياف، إثر خسارة مناطق واسعة تحت وطأة المدفعية وضربات طيران النظام السابق وحليفه الروسي، لكن الانتصار السريع لعملية عسكرية أطاحت بالأسد وضع التطورات في سوريا بصدارة اهتمامات المجتمع الدولي من جهة، ومنح الشارع السوري متنفسًا لإطلاق الصوت عاليًا وتحطيم جدران الصمت التي شيّدها حكم الأسد في عهد الأب والابن لنحو 53 عامًا.
النصر يعني الاحتفالات والخروج إلى الميادين، وبالتالي فحضور موسيقا وأغنية المناسبة ضرورة لا ترف ثقافي أو تراث في غير وقته، ولأجل ذلك نبش السوريون من رفوف الذاكرة أكثر الأغاني التي لامست الشارع وحركت المشاعر وحرّضت على الطاغية وقالت لا للمستبد.
“بندوسهم بندوسهم.. بيت الأسد بندوسهم”، هذه واحدة من الأغاني التي أطلّت مجددًا بعد أكثر من عقد على غنائها لأول مرة، فساعد إيقاعها الحماسي والثوري النابض بالإصرار على ذيوعها بين الناس، بالإضافة إلى “جنة جنة” التي غناها من قبل عبد الباسط الساروت، حارس نادي الكرامة قبل الثورة، ومنشد المظاهرات بعد انطلاقها (توفي في 8 من حزيران 2019).
ولعل ما يربط بين الأغنيتين السابقتين أن كلًا منهما طاله نصيب من فقدان البريق سابقًا، دون إلغاء حضورهما، إلى جانب أن كلتا الأغنيتين جاءت بأصوات خام، ناصعة، لم تتعلم الموسيقا ولم تتخصص في الغناء ولم تختبر المقامات الموسيقية والسلم الموسيقي، لكنها جاءت استجابة للحالة والحاجة في الوقت نفسه، فكانت الأغنيتان المقدمتان بلهجة بدوية رسول النصر إلى الشارع السوري الذي توحد تحت راية الأغنية والمعنى على اختلاف لهجاته.
وفي كتاب “دور الأغنية البدوية الثورية في التوثيق والإعلام” للدكتور المحاضر في جامعة وهران، غوثي شقرون، دراسة لأهمية الأغنية البدوية كوسيلة لتوثيق الحدث التاريخي والتعبير عن النضال الوطني، لا سيما في سياقات التحرر والثورات، كونها تعتمد السرد الشعري واللحن البسيط لنقل الحكاية، ما يمنحها فاعلية في حفظ التراث، إلى جانب توثيق القيم الاجتماعية والثقافية عبر الكلمة واللحن.
هذه الأغنية سبقت بحضورها وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية، حين كانت تُتناقل شفهيًا، وإلى جانب حفاظها على وجودها حافظت على سماتها أيضًا، ولعل أبرزها الخطاب المباشر والبسيط الذي يحاكي عامة الناس، إلى جانب ما تنطوي عليه من فخر بالوطن واعتزاز بالشجاعة في مواجهة الظلم، الأمر الذي يغذي الروح الوطنية ويعزز فهم التاريخ والثقافة الوطنية، وفق ما قدّمه الكتاب.
من جانب آخر، سجّلت أغنية “بالحب بدنا نعمرها” حضورًا واسعًا في الساحات والميادين، وتحوّل عنوان الأغنية بحد ذاته إلى شعار مرحلي بالنسبة لشريحة من الشارع السوري، فالأغنية التي جاءت في الذكرى الـ11 لانطلاق الثورة السورية، خرجت عن سياق التحدي والفخر الواضح في الأغاني الأخرى، وقدمت نظرة استشرافية على واقع مأمول للبلاد، رغم حالة الخمول السياسي في الملف السوري حينها، فكانت رسالتها إعمار ما دمره نظام بشار الأسد ووعدًا بعودة دمشق إلى أهلها.
أغنية تعود إلى الشعب
فيما يتعلق بتسمية الأغنية، واحتمالية تغيّره بانتقالها من أغنية ثورة إلى أغنية وطنية تزيح موروث النظام السابق من الأغاني الموجهة القائمة على الدعاية لشخص أو حزب، يرى علي أسعد، وهو مغنٍّ سوري حاصل على دبلوم علوم الموسيقا من جامعة “جراتس” في النمسا، أنه يمكن تسمية هذه الأغنية بالأغنية الثورية، إلى جانب كونها في نهاية المطاف أغنية شعبيه، تعود إلى الشعب وتعبر عن هويته ونضاله وحياته بكثافة، بأبيات قليلة مغناة، وتوثق بدقة ما عاشه خلال حقبة تغيير كبيرة (14عامًا).
علي أسعد الذي يدرّس الموسيقا في جامعة فيينا، ويعمل في الموسيقولوجيا (البحث في الموسيقا)، أوضح لعنب بلدي أن الأغنية الثورية ستكون أغنية توثيقية للمرحلة النضالية في سوريا خلال 14سنة من الثورة.
كما يمكن لكثير من الأغاني المؤلفة في هذه الفترة أن تعيش لمدة طويلة في ذاكرة السوريين، بل وتعيد إنتاج نفسها في أشكال فنية مختلفة عفوية أو متعمدة من قبل المؤلفين الموسيقيين، كجزء من الموسيقا الشعبية التوثيقية لأحداث الشعوب، ومن الأمثلة على ذلك، الأغاني التي كانت توثق المقاومة ضد الانتداب الفرنسي، أو البريطاني في حالة فلسطين، وغير ذلك من الأهازيج الشعبية التي تصبح جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية، وحتى من الوعي السياسي المؤسس لمراحل جديدة بعد تغييرات كبرى، كالذي يحصل في سوريا حاليًا.
ويرى علي أسعد أن الأغاني غير ملزمة بمراعاة عوامل معينة فنيًا، لأنها ثقافة شعبية مؤلّفة ضمن قوالب ومقامات مستخدمة أصلًا بشكل واسع شعبيًا، كموروث عميق يتكيف مع المستجدات من خلال النصوص مثلًا، ما يجعل الأغاني تفرض نفسها على الواقع وليس العكس (من ناحية العملية التأليفية، باعتبارها أغاني شعبية تمامًا، كأغاني الساروت مثلًا).
بالنسبة للعوامل السياسية والاجتماعية، فمن المتوقع أنه كلما ابتعد مضمون الأغنية عن الخطاب الطائفي، ودعت لخطاب جامع لكل السوريين بتنوعهم العرقي والديني، سيكون لها الحظ الأوفر في قلوب الجميع، وستعيش أكثر بحكم العامل الوجودي، على اعتبار أن الأعمال الفنية والأغاني كالكائن الحي، تحتاج إلى عوامل وأسباب كافية للحياة على المدى الطويل، قد يصل منها “الأقوى” في بعض الحالات لتحافظ على بقائها حتى تصبح نشيدًا لدولة جديدة متشكلة مثلًا.
كلما ابتعد مضمون الأغنية عن الخطاب الطائفي، ودعت لخطاب جامع لكل السوريين بتنوعهم العرقي والديني، سيكون لها الحظ الأوفر في قلوب الجميع، وستعيش أكثر بحكم العامل الوجودي.
علي أسعد
مغنٍّ وموسيقي سوري
الأغنية الثورية.. إحساس بالجماعة
أظهرت دراسة منشورة في نيسان 2017، بمجلة “Frontiers in Psychology“، تحت عنوان “مراجعة حول الروابط العصبية بين تنظيم العواطف والموسيقا”، أن الأغاني يمكنها إثارة الشعور بالاعتزاز والانتماء، بسبب القدرة على تنشيط مناطق الدماغ المرتبطة بالعاطفة والذاكرة، واللوزة الدماغية والحصين (مناطق مسؤولة عن استرجاع الذكريات العاطفية، التي تكون مرتبطة بشكل قوي بالمجتمع والوطن).
كما أن الغناء بشكل جماعي يمكن أن يعزز مشاعر التماسك الاجتماعي بين الأفراد، فالغناء والموسيقا يرفعان هرمون الثقة أو هرمون الترابط “(الأوكسيتوسين)، وفق مقالة علمية صادرة عن جامعة “أرهوس” الدنماركية، في 2016، بعنوان “الأوكسيتوسين والموسيقا والتواصل الاجتماعي“، وهي حالات كانت حاضرة في أغاني الثورة السورية منذ البداية حين كانت الأغنية محرك المظاهرات، قبل أن تتحول للطقس الاحتفالي الذي تعيشه الميادين والساحات العامة في سوريا فرحًا برحيل الأسد.
الفنان السوري سميح شقير، الذي غنّى “يا حيف” فاتحة الأغاني الثورية السورية، أوضح لعنب بلدي في وقت سابق، أن الأغنية الثورية تحتاج إلى وضوح في المشهد السياسي، فهي تتأثر بالتحولات الجدلية في الشارع الثوري، ما يجعل التقاط نبض محدد للروح الثورية أمرًا بالغ الصعوبة، بالإضافة إلى التأثير المتبادل بينها وبين المزاج العام، فحين يصاب هذا المزاج بالخيبة يصعب الوصول إلى مسامع الثائرين، وهذا يفسّر انتشارها الواسع خلال الأسابيع الأخيرة، فالوجوه المستبشرة والبشوشة في الميادين والساحات المكتظة وأعلام النصر المرفوعة والطقوس الاحتفالية التي تشبه الأعياد، والتسجيلات المصورة التي تظهر رجالًا ونساء ومسنين يرقصون على أنغام أغاني الثورة، تحكي الكثير عن مزاج السوريين بعد سقوط الأسد.