تكريس منهج أم تغيير مناهج؟
غزوان قرنفل
طفت خلال اليومين الماضيين على سطح وسائل التواصل الاجتماعي مساجلات بين السوريين تتعلق بقرار تعديل أو تغيير بعض المناهج التعليمية، رغم اتفاق جميع السوريين أو معظمهم على الأقل أن النهوض الحقيقي بالعملية التعليمية يقتضي بالضرورة إعادة النظر وإعادة صياغة ربما كل المناهج التعليمية، ليس فقط لجهة مضمون المادة التعليمية وجعلها تتماشى مع أحدث المضامين والنظريات العلمية السائدة في العالم، فضلًا عن إلغاء الحشو اللغوي وكثرة المواد بلا طائل، وإنما أيضًا مراجعة الآلية التعليمية نفسها وكيفية التعاطي مع الطلبة في مستوياتهم التعليمية المختلفة وتهيئة أفضل بيئة تعليمية ممكنة لهم.
إذًا، نحن حقًا نحتاج إلى تغيير جذري في محتوى المناهج، لكن كل ذلك يحتاج إلى مناخ أقل تشنجًا وتجاذبًا، وإلى ظروف مجتمعية وسياسية أكثر استقرارًا، تتيح للحكومة تشكيل لجان علمية وفنية تعمل على إعادة صياغة مضمون المادة التعليمية والشكل الفني والتقني الذي يجب تقديمها فيه، ولا يجوز أن يتم الآن في حالة من الضغط النفسي والاقتصادي والأمني، كما لا يجوز أن يتم من قبل سلطة لا تملك دستوريًا الحق القانوني بفعل ذلك، بوصفها حكومة تسيير أعمال، لا تملك الصلاحية والسلطة اللازمة للقيام بغير أعمال تسيير شؤون المواطنين الملحة، وتسيير شؤون مؤسسات الدولة والاستجابات الطارئة للأحداث، وتوفير الأمن والحماية للمواطنين وأرزاقهم وحقوقهم.
الأخطر في هذا السياق أن هذه السجالات بشأن المناهج التعليمية تزامنت مع بث مقابلة تلفزيونية مع وزير العدل في الحكومة السورية الحالية وغطت على محتواها، عندما قال إننا سنطبق الشريعة الإسلامية، وطبعًا هو يقصد ذلك ضمن ما يتبع وزارته من مؤسسات، مستبقًا مؤتمر الحوار الوطني ومخرجاته، ومستبقًا ما قد يصدر عنه من إعلان دستوري ربما لا يأخذ بهذا القول، بل ومستبقًا تشكيل لجنة صياغة الدستور الدائم للبلاد، التي لم ترَ النور بعد، فقرر وارتأى أن يطبق “الشريعة الإسلامية” في المحاكمات والمحاكم، التي لا يزال الوزير يفترض مسبقًا أن تابعيتها ستبقى لوزارة العدل وليس لمجلس القضاء الأعلى، إعمالًا لمبدأ فصل السلطات.
حتى الاستمارة التي وزعت على القضاة العاملين والمنشقين أيضًا، ممن يرغبون بالعودة إلى عملهم ضمن الجسم القضائي وتضمنت الكثير من الأسئلة وطلب المعلومات، من بينها سؤال عما إذا كان القاضي يتقن تجويد القرآن الكريم، وسؤال عما يحفظه من آيات القرآن الكريم أيضًا، ولا أدري ما الصلة والعلاقة بين الحق في العودة للعمل والانتظام فيه وبين حفظ أو تلاوة القرآن.
المسألة في حقيقتها ليست تلك الهمروجة التي أثيرت حول تغيير بعض محتوى المناهج، بل أعتقد أن الأمر يتعلق بتكريس منهج لصيق بعقيدة القيادة الحالية وهويتها الفكرية التي اتخذتها نهجًا لإدارة الحكم والسلطة في إدلب قبل سيطرتها على عموم سوريا، وهذا شيء يبعث على القلق لدى معظم السوريين، فليس من مهام الدولة إدخال الناس جنة الآخرة، يكفي أن تعمل لتخلق لهم جنة يعيشون فيها في دنياهم، بينما يتكفل الله وحده بآخرتهم.
من المسلّم به أن تعزيز متانة النسيج الوطني بين مختلف مكونات أي دولة حديثة يقتضي بالضرورة الأخذ بمبدأ المواطنة، الذي يعطي حقوقًا متماثلة ومتساوية لجميع مواطني الدولة، ويرتّب عليهم جميعًا نفس الواجبات والالتزامات دون تمييز بينهم على أساس القومية أو الدين أو المذهب، وأعتقد أن كل السوريين متفقون على وجوب إعمال هذا المبدأ في التأسيس لجمهوريتهم الجديدة عندما جعلوه جزءًا أصيلًا من أهداف ثورتهم.
وإذا كان البعض يعتقد أن المواطنة هي على الضد من الدين أو من حق الفرد أو الجماعات بتعلم أحكام دينهم وممارسة شعائرهم الدينية، لأن هذا الحق مرتبط وجودًا وعدمًا بالقانون الوضعي، فأعتقد أن الأمر ملتبس عليهم أو أن فهمهم للأمر مشوب بقصور الاطلاع والمعرفة، وهناك ملايين السوريين الذين عاشوا خلال العقد الأخير في دول تطبق هذا المبدأ وتأخذ به في تشريعاتها، فهل تعرّض أحد منهم لانتهاك حقوقه الدينية فيها؟
والحقيقة أن المواطنة جزء من سلسلة وليست هي كل المسألة، فالمواطنة تقتضي تأكيد مبدأ سيادة القانون، الذي يعني امتثال جميع المواطنين، حاكمين أو محكومين، لمقتضيات وأحكام القانون بلا تمييز بينهم، والعمل وفق هذين المبدأين يقودنا بالضرورة للديمقراطية التي هي هدف أسمى لثورة السوريين ومسعاهم نحو الاستقرار والوفرة.
لذلك فإن أي قول أو فعل لا يكرس مبدأ المواطنة ويميز بين الناس في الحقوق والالتزامات ويحاول إبقاء التعامل مع الناس كرعايا لا مواطنين، ويصنف غير المسلمين كمغضوب عليهم وضالّين، يمثل اعتداء جديًا على حقوق السوريين في أن يكونوا مواطنين كاملي الأهلية والحقوق في دولة تحترم آدميتهم وتصون حقوقهم الإنسانية، وامتهانًا لما بذلوه للوصول إلى هذا الهدف.
إن أي رهان أو مسعى لتكريس منهج يؤسس لدولة دينية في سوريا لن يبدد انتصارنا على الاستبداد فحسب، بل سيقودنا جميعًا إلى هاوية لا قرار لها، لا سمح الله، فوحدها دولة القانون والمواطنة هي طوف العبور إلى ضفة السلامة الوطنية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :