عبادة مزيك.. من ظلمات المعتقلات إلى مسار العدالة

مقاتل في فصائل المعارضة يحاول تحطيم باب في سجن صيدنايا - 9 كانون الأول 2024 (AP)

camera iconمقاتل في فصائل المعارضة يحاول تحطيم باب في سجن صيدنايا - 9 كانون الأول 2024 (AP)

tag icon ع ع ع

“أكثر ما آلمني هو سماع أصوات أطفال تحت التعذيب، أصوات لا تفارق ذاكرتي، ولا أستطيع تخيل ما كان يحدث لهم خلف الأبواب المغلقة”.

بهذه الكلمات يروي عبادة مزيك، المواطن السوري- الأمريكي، معاناته خلال رحلته القاسية مع الاعتقال الذي بدأ في عام 2011، واستمر 35 يومًا وهو اعتقاله الأول، مخلفًا أثرًا نفسيًا عميقًا ورهابًا من الأجهزة الأمنية، ليعاد اعتقاله مجددًا في كانون الثاني 2012.

بعد اعتقاله الأول، أجبر عبادة على مغادرة سوريا في نفس يوم إصدار طلب مراجعة أمنية بحقه، ثم عاد إليها بعد أربعة أشهر بعد التحقق من إلغاء المراجعة الأمنية و”تفييش” اسمه على الحدود السورية للتأكد من عدم إدراجه على لائحة المطلوبين.

وعند وصوله إلى مطار دمشق، تم توقيفه، وتنقل بين أجهزة الأمن المختلفة، ليواجه سلسلة من الانتهاكات والتعذيب داخل أجهزة المخابرات، بدءًا من الأمن الجنائي، مرورًا بالأمن السياسي، ووصولًا إلى المخابرات الجوية.

ورغم وجود بعثة من جامعة الدول العربية وحقوقيين في سوريا، في كانون الثاني عام 2012، لتقييم الأوضاع الأمنية في السجون السورية، لم تكن هذه الرقابة كافية لتخفيف الانتهاكات.

قال عبادة لعنب بلدي، “أول يوم كان الوحيد الذي كان فيه التعذيب محدودًا مقارنة بالأيام التالية، ومع ذلك، سرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها في الأيام التالية، رغم الحديث عن توقف التعذيب لسبعة أيام في فرع المخابرات الجوية قبل انتقالي إليه”.

في الزنزانة “رقم 3”

أوضح عبادة مزيك لعنب بلدي تفاصيل مروعة عن ظروف اعتقاله في فرع “المخابرات الجوية” بمطار “المزة” العسكري، مشيرًا إلى تعرضه لـ”حفلة استقبال” عند وصوله، شملت الضرب والشتم ومحاولة خنق كادت تودي بحياته.

وفي الزنزانة “رقم 3” مكث مزيك، وكانت مواجهة لغرفة التحقيق، حيث تملأه أصوات التعذيب القادمة بشعور من العجز والخوف. 

وأوضح أن أكثر ما أثقل عليه نفسيًا في تلك الفترة كان سماع أصوات تعذيب الأطفال، “كنت أحاول تخيل ما يحدث للأطفال طوال الوقت، وكان من الصعب علي استيعاب ما يجري خارج زنزانتي. وكلما فُتحت الزنزانة، كنت أخشى أن يأتي دوري للتعذيب”.

“كان الحديث أو الصلاة أو القيام بأي نشاط ممنوعًا تمامًا، أما فترات الذهاب إلى الحمام فكانت محدودة بثلاث مرات يوميًا ولمدة لا تتجاوز 30 ثانية. أما المرضى من المعتقلين، فكانوا يتعرضون للضرب عند طلب العلاج”، أضاف مزيك.

وفي أثناء التحقيق، وُجهت له تهديدات بالشبح والتعذيب باستخدام الكهرباء، وشهد أمام عينيه تعذيب أحد أقاربه، “كنت أنتظر في بهو التعذيب لمدة ثماني ساعات، أرى وأسمع العديد من المعتقلين وهم يتعرضون للتعذيب والشبح، حتى انتهى بي المطاف في الزنزانة، وفي اليوم التالي، بدأ تحقيق جديد معي حول موضوع مختلف، حيث جرى تداول شكوك حول علاقتي بدبلوماسيين أمريكيين”.

كان عبادة يظن في ذلك الوقت أن التحقيق الجديد بدأ بسبب تسليط الضوء على اعتقاله في وسائل إعلام أمريكية”، لكنه اكتشف لاحقًا بعد الإفراج عنه أن تدخل الوساطة لعب دورًا في تسريع إجراءات التحقيق، لينتهي اعتقاله الثاني والأخير لمدة 23 يومًا، منها 15 يومًا في فرع المخابرات الجوية.

ما بعد الاعتقال

عبادة بعد الاعتقال ليس عبادة قبله، وفي محاولة للحد من الآثار النفسيه عليه، كتب قصته في أواخر 2012 كوسيلة للتخفيف من المشاعر السلبية التي خلفها الاعتقال، لافتًا إلى أن الكثير من المعتقلين لا يحصلون على الدعم النفسي اللازم بعد الإفراج عنهم، ما يترك آثارًا طويلة الأمد على حياتهم.

وفي عام 2020، تعاون عبادة مع “المركز السوري للعدالة والمساءلة” (CJA)  لرفع قضية ضد النظام السوري بهدف تسليط الضوء على معاناة المعتقلين ورفض التطبيع الدولي مع النظام.

وفي 2023، أعلن عن الدعوى المرفوعة ضد نظام الأسد، أما في 2024، عرض عبادة على المحكمة الأمريكية، في 20 كانون الأول، أدلة بشأن محاسبة النظام السوري على التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة له.

أكد عبادة أن هذه القضية ليست فقط عن نفسه، بل هي “صوت لكل المعتقلين المنسيين الذين دفعوا أثمانًا باهظة في سبيل الحرية والكرامة”.

“مهما طال الزمن، سيبقى الظلم والاستبداد عرضة للعدالة، وستكون العقوبة هي النهاية الحتمية للمجرمين”، بحسب عبادة.

ما القضية؟

وعرضت على المحكمة الفيدرالية الأمريكية، في 20 من كانون الأول 2024، أدلة حول التعذيب والاختفاء القسري في سجون النظام السوري السابق، تضمنت شهادات أكثر من 30 معتقلًا سابقًا.

يهدف هذا الإجراء إلى محاسبة النظام السوري على ممارساته الممنهجة للتعذيب داخل مراكز الاحتجاز التابعة له.

كما قدم خمسة خبراء دوليين تقارير موسعة حول الانتهاكات التي يرتكبها النظام السابق، والتي تشمل التعذيب الجسدي والنفسي، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، إضافةً إلى تداعيات الاحتجاز والتعذيب على الضحايا وأسرهم والمجتمع السوري ككل.

وتقدم “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، بالتعاون مع شركة “فريشفيلدز” للمحاماة الأمريكية، وبدعم من أكثر من 20 منظمة مجتمع مدني سورية، بطلب للمطالبة بالحكم ضد سوريا بسبب التعذيب في سجون الأسد.

جاء ذلك بعد تقديم المركز السوري بالتعاون مع شركائه، في عام 2022، شكوى عبر القنوات الدبلوماسية إلى الحكومة السورية السابقة، ولكنها لم ترد على الدعوى.

من جانبها، أكدت أنيكا ها فالدار، المحامية في شركة “فريشفيلدز”، أن الشهادات التي أدلى بها الشهود تروي “الفظائع التي عانوا منها على أيدي المسؤولين السوريين”، مشيرة إلى أن قصصهم تبرز مدى خطورة وآثار ممارسات التعذيب التي أقرها نظام الأسد.

يأتي هذا التحرك بعد نحو عام من الإعلان عن فتح القضية ضد النظام السوري، والتي يطالب فيها عبادة مزيك بمحاسبة النظام على التعذيب الذي تعرض له في فرع “المخابرات الجوية” بمطار “المزة” العسكري عام 2012.

هذه الجلسة في إطار الدعوى المدنية التي تهدف إلى تحميل النظام السوري المسؤولية عن الانتهاكات المرتكبة في مراكز الاحتجاز، وتسليط الضوء على استخدامه الممنهج للتعذيب كسياسة تقرها الدولة.

ويرتكز هذا الإجراء القانوني على “قانون الحصانات السيادية الأجنبية”، وهو قانون فيدرالي يسمح للضحايا بمقاضاة الدول الراعية للإرهاب، مثل سوريا، على تعذيبها مواطنين أمريكيين.

جهود منظمات

عملت عشرات المنظمات السورية والدولية على الوصول إلى سبل لمحاسبة النظام السوري على مختلف الانتهاكات المرتكبة بحق آلاف المدنيين.

وتركّز عمل العديد من المنظمات على قضايا المعتقلين والمختفين قسرًا، ما أسهم بإجراء محاكمات لأشخاص اتهموا بارتكاب الانتهاكات في المعتقلات ومراكز الاحتجاز قبل لجوئهم إلى أوروبا، وأبرزهم قضية الضابط السابق في المخابرات العامة السورية أنور رسلان.

ولعبت تلك المنظمات دورًا في قضية عبادة مزيك من خلال مشاركة خبراتها مع “مركز العدالة والمساءلة” (CJA) المسؤول عن القضية، وفق ما ذكره المركز.

وأسهم “المركز السوري للعدالة والمساءلة” بتقديم وثائق لدعم القضية، بينها إفادات الشهود ووثائق داخلية من النظام السوري، تظهر التعذيب في أجهزة المخابرات السورية وخصوصًا في فرع المزة، وفق ما قاله المدير مركز روجر ليو فيليبس، في حديث سابق لعنب بلدي.

وتعرض مئات السوريين للاعتقال والتعذيب في فرع “المخابرات الجوية” بمطار “المزة”، من بينهم مدافعون عن حقوق الإنسان وناشطون مثل مازن درويش ومنصور العمري وحسين غرير.

كما أفادت التقارير بأن العديد من الأشخاص الآخرين الذين قتلوا في مراكز الاعتقال السورية مروا في مركز “المخابرات الجوية”، ومنهم ليلى شويكاني وأيهم غزول ونبيل شربجي وحمزة الخطيب وثامر الشرعي.

استمرار الكارثة الإنسانية 

أصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بيانًا، في 28 كانون الأول، قالت فيه إنه على الرغم من فتح جميع مراكز الاحتجاز، عقب سقوط رئيس النظام السوري المخلوع، بشار الأسد، لا تزال هناك كارثة إنسانية مستمرة.

وأضافت الشبكة أن 112414 شخصًا لا يزالون مختفين قسرًا، بينما أُفرج عن حوالي 24200 شخص خلال الأسابيع الأخيرة.

وأوضحت أن نظام الأسد بدأ منذ عام 2018 بتسجيل آلاف المختفين قسرًا على أنهم “متوفون” دون تسليم جثامينهم أو إبلاغ ذويهم بملابسات وفاتهم، مما يبرز استمرار الجرائم المنهجية. 

كما أشارت إلى إصدار أحكام إعدام جماعية بحق آلاف المختفين قسرًا، خاصة في مراكز احتجاز مثل سجن “صيدنايا” العسكري.

وأضاف التقرير أن قاعدة بيانات الشبكة حتى آب 2024 تشير إلى وجود 136614 شخصًا بين معتقل ومختفٍ قسرًا، مع الكشف مؤخرًا عن مواقع تحتوي على رفات آلاف الضحايا الذين أُعدموا خارج نطاق القانون.

وعلى الرغم من الإفراج عن بعض المعتقلين، لا يزال عشرات الآلاف في عداد المختفين قسرًا.

وفي بيان آخر صدر في 23 كانون الأول، أدانت الشبكة الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام الأسد، مشيرة إلى تورط نحو 16200 شخص في هذه الجرائم، بينهم 6724 من القوات الرسمية و9476 من القوات الرديفة.

كما دعت إلى محاسبة المسؤولين، خصوصًا من القيادات العليا، وضمان حقوق الضحايا في رفع دعاوى قضائية ضمن إطار العدالة الانتقالية لتحقيق المساءلة والإنصاف.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة