قراءة نفسية لأحداث الساحل السوري

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

شهد الأربعاء الماضي، أول حالة توتر تعيشها الساحة السورية منذ لحظة الفرح العظيم بسقوط النظام السابق، بدأت القصة (حسب أكثر الروايات منطقية) عندما حاولت قوة تابعة لـ”إدارة العمليات العسكرية”، إلقاء القبض على أحد مجرمي النظام السابق، وترافقت هذه العملية مع انتشار تسجيل مصور لحريق نشب في مقام الشيخ الخصيبي في حلب، في أثناء لحظة تحرير المدينة من نظام الأسد، لتنطلق وقفات احتجاجية في الساحل اعتراضًا على هذا الفعل، وتتدحرج كرة الثلج بأماكن الوجود العلوي في سوريا، حتى وصلت إلى بعض أحياء دمشق كـ”المزة 86″، ثم بدأت عملية خلط الأوراق، لتتطور إلى مظاهرات وتهديدات بحرق للمساجد، واستخدام للسلاح، خسر فيه وطننا 14 مقاتلًا من “إدارة العمليات”.

فما الذي دفع هؤلاء الناس للتصعيد الخطير هذا؟

بداية علينا التفريق بين مجموعتين مختلفتين تمامًا ممن أسهم في هذا الحراك:

المجموعة الأولى، هم المتظاهرون السلميون (بمن فيهم من شارك ببعض عمليات التخريب)، ملؤوا الدنيا صراخًا وهتافات، وحتى تكسيرًا وتحطيمًا بهتافات ذات مضمون طائفي (علوية، علوية)، أو محايد (يا علي، يا علي) أو وطني (الشعب السوري واحد).

والفرق بين تلك الشعارات، أن “علوية” عندما تقال في مظاهرة وفي أثناء لحظة الغضب، فهي إعلان افتراق للهوية وتحديدها وتمييزها عن الهويات الأخرى في لحظة إثبات ذات، وبالتالي إقصاء كل مختلف عن هذا الحشد في تلك اللحظة، أما شعار “يا علي يا علي” رغم مضمونه الذي يوحي بالطائفية، لكنه بالنهاية ابتهال وطلب مدد ومساعدة ذات محتوى ديني، ولا يوجد به ما يفرق، فيستطيع أي شخص المشاركة في هذا طلب العون (لو أراد)، ونستطيع تشبيهه بـ”قائدنا للأبد، سيدنا محمد” الذين سمعناه ونسمعه دومًا في الكثير من المظاهرات (مع الأخذ بالاعتبار طبعًا تفاوت رمزية الرسول عن الصحابي علي)، فهو أيضًا ذو مضمون ديني إسلامي، لكنه دون محتوى طائفي تفريقي. على كل حال، يجب أن نتعود في وطن المستقبل على تنوع كهذا في الشعارات والابتهالات، لأننا سنسمع الكثير من هذا التنوع، وقد سمعنا فعلًا هتافات مسيحية مشابهة قبلها بيوم واحد.

المجموعة الثانية: هم مجرمو النظام السابق، الذين رفعوا السلاح في وجه الدولة، وأطلقوا النار على رموزها مثل شبيحة سفاح صيدنايا (قيل إنه اعتقل لاحقًا) أو من هددوا بإحراق المساجد، كالمجرم شجاع العلي وأعوانه (قتل في اليوم التالي)، أو قطع الرؤوس، وسفك الدماء كالشيخ لقمان بدر غرة (ظهر في تسجيل مصور في اليوم التالي).

لا يعود هذا التقسيم لأسباب حقوقية (على أهميتها) ولا سياسية (على أهميتها أيضًا خاصة لفهم المرحلة اللاحقة)، بل لفهم الدوافع النفسية لهذا التحرك.

صبيحة سقوط الأسد، أصيبت نسبة كبيرة من أفراد الحاضنة الشعبية في الساحل بحالة صدمة وذهول، وأقول نسبة كبيرة لأن الكثيرين خرجوا إلى الشوارع مع بقية أفراد الشعب، وعبروا عن سعادتهم وحملوا أعلام الدولة الجديدة، بينما اكتفى البقية بوضع هذا العلم على “فيس بوك” كأحد تعبيرات الخوف من المرحلة المقبلة، خوف شاركهم فيه الكثير من المؤيدين السابقين، ما أضاف إلى قاموسنا السوري لفظة “التكويع”. هذا الخوف مبرر فعلًا، فالأسد ومنذ أكثر من نصف قرن، وهو يزرع في أذهانهم سيناريوهات مخيفة عن لحظة السقوط هذه، حتى تحولت إلى كابوس مفزع في خيالات الكثيرين، وحتى عندما ظهر رامي مخلوف في آخر تسجيل مصور له، هددهم بأن القادمين الجدد سيسبون النساء ويستعبدون الرجال، واختار في هذا الخطاب كلمات ومصطلحات تتناسب مع بيئة جبال الساحل وإيمانهم بعلوم الغيب، وتكلم معهم وكأنه عارف بالله (وأعلم ما لا تعلمون).

في هذه اللحظة، تشاركت المجموعتان الإحساس بلحظة الخوف تلك، لتمر الأيام، وتدخل قوى “إدارة العمليات” جميع قرى الساحل، دون أن تقوم بأي عمليات انتقامية، باستثناء بعض التعديات اللفظية هنا وهناك، أو عنف بسيط بحالات محدودة، غالبًا ما سعى الحكم الجديد لحلها بسرعة يحترم ويقدّر عليها، لتبدأ هنا النفس بتجاوز مرحلة الصدمة، وتعبر عما في أعماقها من مشاعر وأحاسيس، وهنا تحديدًا، أي بعد تجاوز الإحساس بـ”تخدير الصدمة”، بدأ إحساس “بتر السلطة” لدى مجرمي النظام السابق، وكما يجري في كل عملية بتر، يبقى الإنسان يشعر بجزئه المبتور، مع قليل من أحاسيس الألم والخدر، وهنا بدأت نفضة مجرمي السلطة، كصرخة أخيرة مستميتة للإحساس بعضو مفقود، وقد راقبت العديد من فيديوهات التحريض تلك، كانت واضحة جدًا تلك اللذة في استعادة لغة التهديد التي أصبحت جزءًا من وجودهم، وهم يدركون بأعماقهم أنهم فقدوا القدرة على ممارسة تلك اللغة، لكن درجة التصاقهم بها جعل منها جزءًا من وجودهم، وسيحاولون التمسك بإحساس هذا الجزء حتى قبيل لحظة الغياب التام عن جسدهم.

أما المجموعة الثانية، فهم أيضا شعروا بالأمان، بعد أسبوعين من الترقب، وسنوات عمر من الخوف والرعب، فاستغلوا حادثة إحراق الضريح هذه، للتعبير عن الكرامة والإحساس بالنفس للمرة الأولى في العمر، رغم أن جميل الأسد قام بإحراق الكثير من الأضرحة المقدسة في الماضي، كما ذكر العديد من المثقفين العلويين، دون أي رد فعل شعبي (فقد كان الخوف سيد الموقف)، لكن هذه المرة كان العلويون بحاجة للإحساس بأن لهم وجودًا وصوتًا، فالكثير من السوريين قد خرجوا وعبروا سابقًا عن ذاتهم بشكل مجتمعي في مناسبات عدة (درعا والسويداء وداريا ودوما والقامشلي)، لكن العلويين بقوا صامتين (وهنا أتحدث عن المجتمع ككل، وليس عن أفراد شاركوا في الحراك السوري بكل فعالية ضمن مدن وأحياء أخرى)، فكل مشاركات العلويين السابقة كانت لأسباب معيشية، وهنا حتى التكسير والتحطيم، بالتحليل النهائي، يعد أحد أشكال الانتماء، لأن المواطن بحاجة لإخراج غضبه تجاه دولته ونظام حكمه.

يحترم ذكاء وعبقرية الإدارة السياسية في الرد، فسياسة الاحتواء، بل والتقرب، كانت السمة العامة في التعامل مع المتظاهرين، وصلت لدرجة أن القطع العسكرية التي دخلت الأحياء العلوية في حمص نادت يا خصيبي، في إشارة إلى احترام هذه القوى لعقيدة الناس، إشارة التقطها الإحساس الجمعي للعلويين في حمص وقدرها كثيرًا، بينما أرسلت التعزيزات العسكرية والأسلحة للمسلحين، وقامت باعتقال المجرمين وقتل من قاوم منهم، أداء لن أكون مبالغًا إذا قلت انه إبداعي، ولم يسبق وقرأت عنه سوى مرة واحدة في تكتيك قدم كنصيحة لإنديرا غاندي في أثناء تصديها لأحداث المعبد الذهبي في البنجاب، ولم تستمع لها وقتها، فقادت البلاد لاحقًا إلى حرب أهلية، لكنها استخدمت هنا بكل فعالية، فجنبت البلاد مآسي كثيرة.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة