دولة “البعث”.. وطن المداجن البشرية

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

تقول الرواية، إن الأسد الأب كان معجبًا جدًا بنيكولاي تشاوشيسكو، طاغية رومانيا، الذي أخذ يعوي كذئب جريح وهو مقيد اليدين إلى جدار مرحاض في إحدى الثكنات العسكرية، غير مصدق أنه فقد سلطانه وصولجانه، وأن ثواني فقط تفصله مع زوجته إيلينا عن الموت رميًا بالرصاص. وأن الأسد الذي لم يُقدّر للسوريين أن يقيدوه على جدار مرحاض كان قد اقتبس الكثير من السلوكيات والممارسات والقرارات من قرينه تشاوشيسكو ليدير بها شؤون الدولة والحزب والمجتمع في سوريا، تعاونه على ذلك ثلة من المجرمين ممن تولوا الشؤون العسكرية والأمنية بوصفها أبرز أدوات القوة والسيطرة، في بلاد لا سقف لقانون فيها يستظل حكامها تحته، ولا يراد للسلطة فيها أن تتفلت من أيدي طغاتها.

يقول دستور الأسد الأب في مادته التالية للمادة التي طوّب فيها الدولة لحزب “البعث” وجعله قائدًا لها وللمجتمع، وأمّم بالتالي العمل السياسي وأغلق الفضاء العام إلا على من انتظم في صفوفه فحسب، إن “المنظمات الشعبية والجمعيات التعاونية تنظيمات تضم قوى الشعب العاملة من أجل تطوير المجتمع وتحقيق مصالح أفرادها”، وبالتالي فقد أمّم أيضًا العمل النقابي وأطّره ليكون وسيلة إخضاع لفئات من المجتمع يراد تجنب شرورها المتوقعه في لحظة ما، وقد كرّس الابن في دستوره المحدّث هذا النهج عندما أدرج النقابات المهنية بصيغة واضحة ضمن منظومة المنظمات الشعبية التي تقتصر وظيفتها على التطبيل للسلطة لا أكثر.

والحقيقة أن هذا الحذر والتحسب المسبق في التعامل مع الأطر الشعبية كان له ما يبرره من وجهة نظرهم، فالسلطة البوليسية التي أطبقت خناقها على المجتمع أواخر السبعينيات، لا تريد أن تتكرر تجربة الثمانينيات النقابية، عندما أصدر المؤتمر العام لنقابة المحامين، في 1 من كانون الأول 1978، قرارًا بتكليف مجلس النقابة “بمقابلة رئيس الجمهورية للمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في البلاد وللتأكيد على مبادئ الحرية وسيادة القانون”، والذي كان بمثابة الإرهاصات الأولى لتصعيد الموقف النقابي تجاه سلطة الأسد الأب مع بداية الثمانينيات، عندما أصدرت مع نقابة المهندسين بيانًا شهيرًا طالبت فيه بإلغاء حالة الطوارئ التي كانت قد أعلنت عقب انقلاب آذار 1963، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وإتاحة الحق للناس بالتعبير عن آرائهم السياسية، وتقليص دور الأجهزة الأمنية، وسحب المظاهر المسلحة من المدن، وسحب السلاح الذي تم توزيعه بهدف تشكيل ميليشيات رديفة للسلطة من الهيئات والفئات المرتبطة بحزب “البعث”.

لقد شكل الموقف النقابي، الذي دعا لإضراب مفتوح عن العمل شارك فيه حتى التجار في دمشق وحلب، تحديًا حقيقيًا لسلطة الأسد الأب، الذي عُرف عنه أنه لا يقبل تحديًا لإرادته وقراره، وبعد فشله في فرض سلطانه على تلك النقابات عبر عقد مؤتمرات لهيئاتها العامة وإجراء انتخابات لمجالسها، أصدر مرسومًا تشريعيًا خوّل بموجبه مجلس الوزراء بحل النقابات بقرار منه وإصدار قانون جديد للنقابات يجعلها تحت وصاية مطلقة من حزب “البعث”، الذي كان قد نصّبه بموجب دستوره قائدًا للدولة والمجتمع، وهكذا ما كان، ثم أطلق العنان لأجهزته الأمنية المتوحشة لشن حملة اعتقالات واسعة لجميع رموز العمل النقابي ممن ناهضوا سلطته المطلقة وبطشه الأمني والعسكري بالمجتمع خلال أحداث الثمانينيات.

منذ ذلك التاريخ تحولت النقابات حقًا إلى مداجن بشرية تقتصر وظيفتها على تطويع إرادة أعضائها وضمان امتثالهم الكامل، وتسليمهم المطلق لقرارات السلطة الحاكمة حتى ولو كانت تلك القرارات على الضد من مصالح أعضائها الذين يفترض أنها تمثلهم وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم.

مناسبة القول الآن، أن ما فعله نظام “البعث” الذي وضع سوريا بحالة قطيعة مع الحريات العامة وأسس للدولة البوليسية، يحاول البعض تكراره الآن مع قيام “نقابة المحامين الأحرار بإدلب” بالذهاب إلى دمشق ووضع اليد على النقابة المركزية للمحامين في سوريا، دون التواصل والتشاور مع بقية النقابات الحرة في المناطق الأخرى، في عملية مصادرة كاملة لإرادة المحامين وخياراتهم الحرة في انتخاب ممثليهم لفروعهم في المحافظات وكذلك للنقابة العامة للمحامين السوريين.

هذه العملية الاستباقية ما كانت لتتم دون ضوء أخضر من الحكومة الحالية، لأنها خبِرتهم في إدلب، وهي ضامنة لامتثالهم المطلق لقراراتها وإجراءاتها، خصوصًا أن نفس تلك السلطة منعت “نقابة المحامين الأحرار” بحلب من تسلم نقابتهم، وأبقت النقابة في عهدة من تم تعيينهم من قبل سلطة الأسد قبل سقوطه.

على أي حال، نأمل أن يكون هذا الإجراء وقتيًا لا أكثر، فالنقابات المهنية إن لم تكن انعكاسًا لإرادة منتسبيها ومعبّرًا عن مصالحهم ومدافعًا شرسًا عن حقوقهم، لا يمكن وصفها بالنقابات، ولنتذكر أن نقابة “تضامن” في بولندا منتصف الثمانينيات كانت أول معول في هدم بنيان الدكتاتورية، في بلدها أولًا، ثم ليمتد نجاحها وتأثيرها بعد ذلك على عموم دول أوروبا الشرقية في التسعينيات.

نحن اليوم أمام فرصة تاريخية لمراجعة أخطائنا وتصويبها، وللتأسيس لدولة القانون والمواطنة المتساوية، مستفيدين من دروس وخلاصات دفع السوريون ثمنًا غاليًا لها، وعدم السماح بتكرارها من قبل أي سلطة قد تحاول الجنوح للاستبداد مستقبلًا، وخلف أي واجهة سياسية أو دينية توارت.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة