دعموا النظام السابق ثم أنكروا العلم بالمجازر
سياسيون وفنانون يملؤون الهواء بـ”التوبة”
عنب بلدي – حسام المحمود
بعد سقوط نظام بشار الأسد المخلوع في 8 من كانون الأول الحالي، اتجهت وسائل إعلام عربية سخّرت الكثير من وقتها وبثها لمجريات الأحداث في سوريا، لاستضافة شخصيات كانت محسوبة على النظام السابق، سواء بشكل رسمي، كالمسؤولين السابقين، أو الفنانين الذين يسجل أرشيفهم مقابلات أعربوا خلالها عن دعم بشار الأسد وقواته التي كانت تدك المدن السورية المأهولة.
هذه المقابلات جاءت ضمن مسارين على مستوى التغطية، ومسارات أخرى على مستوى عامل الزمن، فكانت البداية مع مسؤولين سابقين أتاحت لهم هذه القنوات التلفزيونية الفضائية العربية منصة للظهور (عبر اتصالات هاتفية) و”إعلان البراءة والتوبة” من نظام الأسد، وربط كل الأخطاء بشخص بشار الأسد، والتعبير عن معارضة ضمنية خلال العمل تحت سلطته، لم يلمسها الشارع بأي شكل.
قناة “العربية” السعودية، التي تفرد مساحة واسعة من تغطيتها انطلاقًا من دمشق، استضافت على مدار الأيام الماضية، وزير الخارجية السابق، بسام صباغ، ورئيس مجلس الشعب السابق، حمودة الصباغ، ووزير العدل السوري السابق، أحمد السيد، والسفير السوري في الرياض، أيمن سوسان، وغيرهم من المسؤولين، وكان القاسم المشترك بين هذه المقابلات المزاعم التي طرحها المسؤولون السابقون حول صدمتهم بمستوى إجرام بشار الأسد، وحديثهم عن عدم معرفتهم بهذه الجرائم، لا سيما ما يتعلق بسجن “صيدنايا”، مع تقديم أعذار تستخف إلى حد ما بذكاء الجمهور، لتفسير أسباب البقاء في المنصب، فالسفير أيمن سوسان، ذراع نظام الأسد الدبلوماسية في مسار التقارب التركي مع الأسد في مرحلة سابقة، والسفير بالرياض في الوقت الذي كانت السعودية تصد سيلًا غير منتهٍ من مخدرات الأسد، اعتبر أن بقاءه في منصبه وعدم الانشقاق يخدم الناس أكثر، دون تفسير لآلية أو طريقة الخدمة المزعومة.
حديث عن صدمة
على الإيقاع نفسه، استضافت المحطة نفسها، وتواصل، الكثير من الفنانين الذين دافعوا عن الأسد ودعموه بالرواية والرؤية، واتخذوا مواقف “متطرفة” في تبني دعايته من خلال إطلالاتهم الإعلامية ومقابلاتهم، ومنهم الممثلة السورية سوزان نجم الدين، التي انسحبت سابقًا من مقابلة على قناة “الجديد” حين سألها المذيع حول ما إذا كان بشار الأسد قتل شعبه.
أطلت سوزان نجم الدين، ووصفت المشاهد الخارجة من سجن “صيدنايا” بعد سقوط نظام الأسد بأنها “تدمي القلب”، واعتبرت أنها كانت مخدوعة، دون الالتفات إلى رواية المعارضة السورية وما بثته وسائل الإعلام حول العالم على مدار أكثر من عقد من الزمن، عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين، قتلًا واعتقالًا وتشريدًا، وتدميرًا للبنية التحتية، وتغييرًا في ديموغرافيا البلاد.
ومن هذه المقابلات أيضًا تلك التي خرج بها الممثل السوري بسام كوسا، ودافع بصورة غير مباشرة عن تصريحات سابقة أدلى بها حيال الواقع في سوريا، فبرر وصفه للأسد سابقًا بأنه “رئيس منتخب” بأنه لا يعرف إلا الانتخابات التي تجري في سوريا، وأبدى أيضًا صدمة بمستوى الإجرام وعمليات القتل الممنهجة بحق المدنيين في معتقلات نظام الأسد، دون التفات إلى كثير من الروايات والكتب التوثيقية والبرامج والشهادات الحية لناجين من هذه المعتقلات أيضًا.
هذه المقابلات قوبلت باستهجان من الشارع السوري الذي فسرها ووضعها في أكثر من خانة، تراوحت بين محاولة تعويم رموز وشخصيات ورجالات نظام الأسد لتتصدر المرحلة على حساب تضحيات السوريين التي تُوّجت بانتصار الثورة، خدمة لـ”ثورة مضادة” أو للطعن بالثورة، وبين هرولة خلف المشاهدات دون مراعاة لحساسية المرحلة التي يعيشها السوريون، كون المحطة تستضيف هذه الشخصيات في حين لا يزال آلاف السوريون يبحثون عن مفقوديهم الذين فقد أثرهم في المعتقلات، وما زالت المقابر الجماعية لضحايا النظام تُكتشَف.
في هذا الإطار، أرسلت عنب بلدي مجموعة استفسارات لحكومة دمشق المؤقتة للتعليق على ظهور المسؤولين السابقين والمساعي المحتملة لتصدّر المشهد أو إعلان البراءة من نظام الأسد، لكنها لم تتلقَّ أي إجابات حتى إعداد هذه المادة.
الدكتور في كلية الإعلام بجامعة “دمشق” عربي المصري، أوضح لعنب بلدي أن لكل قناة تلفزيونية سياسة تحريرية تخضع لها، مشيرًا إلى أن المقابلات لم تنحصر بالمحسوبين على النظام، فشملت معارضين ومعتقلين سابقين، في محاولة لتقديم صورة كاملة عن المسألة، لكن المواقف السياسية تحكم في هذا الإطار وفي ظل ما يسمى محليًا “التكويع”، مع التشديد على ضرورة سيادة القانون، وألا يكون الكلام هو ما يبرئ الناس، لكن الأفعال الصادقة.
بعضها مستفز
بحسب المصري، فمن الضروري التمييز بين الأقوال والأفعال، ونبذ خطاب الكراهية، مع مراعاة مسألة مهمة، وهي “تعبئة الهواء” بالنسبة لوسيلة الإعلام، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام مقابلات قد تكون مستفزة، مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يجب أن تكون “تعبئة الهواء” على حساب جودة المضمون وعمق التغطية الإنسانية، فمن حق الجميع أن يقدم موقفًا أو يتراجع ويعتذر عن موقف، لكن المتورطين يقاضيهم القانون ولا تبرئهم تصريحاتهم.
الدكتور المصري اعتبر أن مقابلات السياسيين والفنانين لم تكن التغطية الوحيدة غير العادلة لبعض وسائل الإعلام، لافتًا إلى أن بعض هذه الوسائل قدمت تغطيات غير لائقة تتعلق بالمعتقلين، فصوّرتهم خارج ضوء تضحياتهم وبطولاتهم التي قدموها، وأظهرتهم بشكل لا يليق بمعاناتهم، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن الإعلام ليس محايدًا وغير قادر على أن يكون موضوعيًا، لكن الناس ينادون بالتغطية ضمن إطاري النزاهة والإنصاف، فالقضية تقاس بالميزان، ويمكن النظر إلى عدد من قابلتهم وسيلة ما وكانوا مؤيدين لنظام الأسد، وعدد من قابلتهم من معارضيه، فإذا لم تكن هناك مساواة، فهذا يعني أن التغطية غير منصفة.
“الإعلام يسعى وراء المشاهدات، والفنانون شخصيات متابَعة، وموقفهم يحقق مشاهدات، وتغيير هذه المواقف يحقق مشاهدات أعلى”، أضاف المصري، مبينًا أن من حق القناة تحقيق مشاهدات، لكن لمصلحة “التفاهة” على حساب العمق الإنساني، وليس لمصلحة “الكذب والتضليل”، كما أشار إلى أن الجمهور ذكي وقادر على التمييز والحكم على من كان مدافعًا عن النظام وانتقل إلى صفوف الثورة قبل يومين، ومن سلبه النظام قوته، ومن كان يخدم رواية النظام.
ترتيب أولويات
نورا العايق، ممثلة سورية واختصاصية نفسية، انتقدت هذا التعاطي الإعلامي، وأوضحت لعنب بلدي أن هذه المقابلات، وتحديدًا التي تستضيف الفنانين والفنانات، لا تراعي حساسية الوقت الذي تمر به سوريا، كما أنها لا تحمل أي فائدة للجمهور، بينما هناك شخصيات من المهم أن يراها ويستمع إليها الناس في هذا الوقت، لا سيما أن ظهور شخصيات فنية جدلية حاليًا، قد يسبب مزيدًا من الغضب وعدم تقبل الآخر.
ووفق رأيها، فالأجدى استضافة مفكرين وأطباء نفسيين وأمهات معتقلين ومواطنين عاديين ممن عاشوا ظروفًا قاسية داخل سوريا، فالحديث عن المعتقلات وما جرى اكتشافه من وثائق عن جرائم النظام، وملف الأطفال المعتقلين وغيرها من القضايا، كلها تستحق تسليط الضوء عليها حاليًا، أكثر من مسألة “الانخداع ببشار الأسد” والموقف حياله، “هناك أشخاص تعرضوا للتعذيب، وللإهانة، وهناك أشخاص لا يتذكرون أسماءهم”، أضافت نورا العايق.
ومن المهم، برأي نورا العايق، استضافة شخصيات تساعد في توثيق المرحلة، وأشخاص يعملون على تقليص الفجوة والاحتقان الاجتماعي بين الناس، واختصاصيين للحديث عن آلية التعامل الأمثل مع الخارجين من المعتقلات، في سبيل الإصلاح والمعالجة، كون المعتقلين السابقين والخارجين من المعتقلات قبل إسقاط النظام عرضة للتأثر العاطفي والنفسي بالقضية إلى حد بعيد.
تغطية سطحية.. عوامل تحكم
في الوقت نفسه، هناك لعبة إعلامية غربية أيضًا وتغطية سطحية بالنظر إلى التغطية حول سوريا، فهناك سؤال صحفي عن الكحول ولباس المرأة في الوقت الذي تعيش به سوريا الكثير من التحديات، وهذا يعني مبالغة وتعجلًا وقفزًا على المرحلة، وتجاوزًا لحق الناس الإنساني الروحي، والحاجة لعيش حداد على أرواح الضحايا، الذين كانوا جزءًا من هذه النتيجة.
وردًا على دعوات محلية لا تزال في إطار ضيق لوقف بث المحطات التي تقدم هذه النوعية من المقابلات، يعارض الدكتور عربي المصري العودة إلى مرحلة منع التغطية ومنع البث التي كانت حاضرة بحكم بشار الأسد، معتبرًا أن لكل وسيلة الحق في تقديم خطابها على ألا يكون هدامًا ومؤذيًا، مع الإشارة إلى أن الصحفي أو المذيع يكون ضارًا حين يقدم تغطية ضارة، والممارسات المتعقلة بنوعية الضيوف والهرولة نحو الفرجة والمشاهدات ومحاولة تحقيق أجندات سياسية، تجعل الصحفي يعمل في إطار الضرر، ومنها الكذب والتضليل والكراهية وعدم التحقق من المعلومة والمبالغة في عرض الألم على حساب الضحايا، الذين هم وقود هذا الانتصار، مع ضرورة مراعاة أولويات الجمهور.
ولا يرى المصري أن آلية التغطية والمقابلات المقدمة خاضعة لفوضى تغطية أمام حدث ضخم، فلا توجد فوضى حدث مفاجئ لقنوات ذات استراتيجية، فالصحفي لا بد أن يكون ملمًا بأسلوب التغطية في أوقات الحروب والأزمات والتغطية الإنسانية، وتغطية قضايا الصدمة التي تختلف عن تغطية قضايا العنف وقضايا اللاجئين، فما يحكم تغطية الوسيلة الإعلامية، الأجندة والسياسة التحريرية، والهرولة خلف المشاهدات على حساب قضايا ذات عمق أكبر.
وكان نظام بشار الأسد المخلوع سعى على مدار سنوات الثورة إلى طمس الأدلة التي تدين نظامه، وحاول تقديم رواية وسردية مضادة لسردية الثورة السورية، من خلال مقابلات فنانين يجاهرون بموالاته ودعم “سياسته”، لكن الدمار الذي تركه الأسد المخلوع في كل المدن السورية، والشعب الموزع على مخيمات داخل وخارج سوريا بالملايين، وعشرات آلاف المفقودين بعد فتح المعتقلات، والصور والتقارير المرعبة عن الانتهاكات التي كانت تمارس بحق أبناء البلد، كلها عوامل لا تغلبها دعاية، ولا تعلو عليها أجندة سياسية أو محاولات تلميع مقصودة أو غير مقصودة لمن كانوا متفرجين أو مشاركين بصناعة معاناة الشعب السوري.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :