تسجل الليرة السورية منذ سقوط النظام في 8 من كانون الأول تذبذبًا في قيمتها صعودًا وهبوطًا أمام العملات الأجنبية، ما يفتح الباب أمام التساؤلات حول أسباب ذلك، ومستقبلها القريب وسط توقعات بعدم استقرارها نتيجة مرور البلد بتغييرات كبيرة خاصة فيما يتعلق بالقطاع الاقتصادي.
اليوم، السبت 28 من كانون الأول، بلغ سعر مبيع الدولار الأمريكي 13600 ليرة سورية، بحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار العملات الأجنبية والذهب في سوريا، وقبل يومين وصل إلى 12800 ليرة، بعد أن كان في 19 من كانون الأول يصل إلى 15000 ألف ليرة للدولار الواحد.
عند ازدياد حدة العمليات العسكرية ووصول فصائل المعارضة إلى حدود محافظة حمص وقبل سقوط النظام بلغ أعلى سعر لمبيع الدولار في دمشق 19000 ألف ليرة سورية، فيما عادت الليرة للارتفاع عقب سقوط النظام بأيام وسجلت 12000 ألف ليرة للدولار الواحد، ما دفع عدد من الخبراء إلى تحليل الأمر بأنه مضاربة للتجار.
مضاربات تتحكم
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر اعتبر أنه حتى الآن لا توجد متغيرات اقتصادية تقود الليرة للتحسن، لذلك فإن أي تحسن كبير في هذه المرحلة غالبًا ما يكون نتيجة مضاربات على الليرة، بهدف تحقيق ربح سريع، أو يكون نتيجة إشاعات تدفع البعض لبيع كميات كبيرة من الدولار ما يزيد عرضه في السوق لفترة محدودة.
وأوضح الباحث، في منشور عبر “فيس بوك“، أنه في المستقبل القريب لا بد من وجود إعلام رسمي خاص بالبنك المركزي، يوضح السياسة النقدية، ويعمل على ضبط السوق الموازي (السوداء)، خاصة أن السعر الموازي يفوق في أهميته السعر الرسمي، لكونه المعتمَد في العمليات التجارية.
تحسن “مريب”
تحسن سعر صرف الليرة السورية بشكل مفاجئ قد يبدو مريبًا بالفعل للكثيرين، خاصة إذا جاء دون تغيرات اقتصادية جوهرية تدعم هذا التحسن، وفق ما يرى الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي الدكتور مخلص الناظر.
وأوضح الناظر عبر “فيس بوك” أن هناك عدة عوامل قد تفسر مثل هذا الوضع من الناحية الأكاديمية وهي:
- التدخل الحكومي في السوق: قد تكون السلطات النقدية ضخت كميات كبيرة من العملات الأجنبية في السوق لدعم الليرة بشكل اصطناعي، أو عبر فرض قيود على تداول العملات الأجنبية أو تهديد المضاربين ما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على الدولار بشكل مؤقت.
- سياسات اقتصادية مؤقتة تتعلق برفع أسعار الفائدة، زيادة الصادرات أو تقليل الواردات قد تؤدي إلى تحسين وهمي أو قصير الأمد، أو إصدار قرارات تمنع التعامل بالدولار أو تفرض عقوبات على التداول خارج القنوات الرسمية.
- عوامل سياسية مثل وصول مساعدات مالية أو وعود بمساعدات من حلفاء دوليين أو قد تخلق الإشاعات والتطمينات الحكومية هدوءًا مؤقتًا في السوق.
- تراجع الطلب على العملات الأجنبية إذ قد يكون هناك ركود اقتصادي يؤدي إلى انخفاض الطلب على الدولار لتمويل الواردات.
الباحث الاقتصادي أشار إلى أن كل العوامل السابقة غير موجودة فعليًا، مضيفًا أنه من دون وجود تحسن فعلي في الإنتاج المحلي، التجارة الخارجية، واستقرار سياسي واقتصادي، فإن أي تحسن قد يكون مؤقتًا ومصحوبًا بمخاطر ارتدادات أكبر لاحقًا.
لذلك يخشى من محاولة “قذرة” لسرقة مدخرات الناس من قبل أتباع النظام السابق في شركات الصرافة، بحسب ما فسر الدكتور مخلص الناظر.
زيادة مصطنعة
الدكتور في الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية الدولية معروف الخلف، أكد أيضًا أن ارتفاع قيمة الليرة السورية مصطنع وغير حقيقي.
وقال الخلف، عبر “فيس بوك“، إنه أصبح واضحًا لدى الجميع بأن ارتفاع قيمة الليرة السورية أمام الدولار، حالة غريبة لم نلاحظها في الاقتصادات التي مرت بظروف اقتصادية متشابهة، لذلك بات من الضروري معرفة أسباب التحسن السريع الذي طرأ على الليرة السورية في ظل بيئة اقتصادية تتسم بعدم اليقين وعليه لابد من التمييز بين فترتين الفترة القصيرة (عدة أشهر) والمتوسطة (قد تصل لسنة).
في الفترة القصيرة، ما يحدث في سوق الصرف المحلي والارتفاع في سعر الليرة السورية هي زيادة مصطنعة وليست حقيقية إذ لايزال الاقتصاد يعاني من اختلالات وتشوهات بنيوية في جميع القطاعات، ويمكن إبراز ذلك في عاملين أساسيين:
- العامل الأول: نقدي- اقتصادي، يتمثل بزيادة الطلب على الليرة، وانفتاح المناطق على بعضها بعد الإطاحة بالنظام وقيام البعض باتخاذ قرارهم بالشراء نية منهم في العودة السريعة، وتحوطًا منهم لتغير الأوضاع، وزيادة الطلب على بعض السلع والأصول كالسيارات والمنازل، والكبت النفسي الموروث (التعامل بالليرة السورية فقط) لدى الكثير من الأفراد والمحال التجارية الموجودة في العديد من المحافظات.
- العامل الثاني: عامل مالي ناشئ عن مضاربات لا تقتصر فقط على التجار بل تتعداها إلى الكثير من المدخرين من الأفراد، يضاف لذلك عدم تدخل فوري وسريع من قبل البنك المركزي إزاء هذا الوضع، وعدم وجود سياسات سعرية ونقدية ورقابية في الأسواق.
وأضاف الدكتور معروف الخلف، أنه في الفترة المتوسطة يتعلق الأمر بشكل مباشر بالسياسات الحكومية ومدى كفاءتها في إدارة الاقتصاد من حيث تدخلها في السوق وطباعة عملة جديدة، وتقدير حجم الكتلة النقدية وتحديد الأجور والحد الأدنى لها، وتأثير الزيادة على الرواتب بنسبة 400% على قيمة العملة، ناهيك عن العوامل النفسية التي تتعلق بالفترتين، والتي قد تكون تفاؤلية عند البعض وتشاؤمية عند البعض الأخر الحالة التي قد تولد حالة من عدم الثقة والذعر المالي في نفوس المواطنين.
الخلف أكد أيضًا أن كل هذه العوامل والانطباعات لا تسهم بالتحسن الحقيقي لليرة السورية، إلا من خلال تحريك عجلة الاقتصاد والاستثمار والاستقرار السياسي وتحسين المناخ الاستثماري وعملية إعادة البناء، ودراسة جدوى مصادر التمويل وتوظيفها بشكل أمثل وبمشروعات حقيقية إنتاجية.
استقرار لا تذبذب
من الناحية الاقتصادية استقرار الليرة عند قيمة ما، وإن كانت منخفضة، أفضل من التحسن المؤقت، لكون التذبذب المستمر بين الارتفاع والانخفاض يؤثر سلبًا على العمل التجاري، وعلى حساب التكاليف، ويلحق الخسارة بغالبية الفعاليات الاقتصادية، وفق ما يرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر.
واعتبر السيد عمر أن التحسن السريع والمؤقت لليرة، خاصة إذا لم يقترن بتوضيحات رسمية من البنك المركزي، قد يدفع الأفراد لقرارات نقدية خاطئة، مثل تخليهم عن الدولار لصالح الليرة خوفًا من الخسارة.
خطوات تجنب النزيف
من جهته ذكر الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، مناف قومان، أنه يمكن لمصرف سوريا المركزي والحكومة العمل على عدة خطوات لتجنب المزيد من نزيف الليرة وتحقيق خطوات ملموسة للاستقرار على كافة المستويات.
وعدد قومان الخطوات التي يقترحها ضمن ورقة بحثية نشرت في 21 من كانون الأول وتتمثل بما يلي:
- تعزيز مبدأ الشفافية.
- تحقيق الاستقرار النقدي.
- إعادة بناء الثقة بالمصرف المركزي.
- مكافحة التضخم.
الباحث مناف قومان أكد أن تحقيق الاستقرار في قيمة الليرة السورية مرهون بقدرة الحكومة الانتقالية على تنفيذ إصلاحات جوهرية على كافة الصعد.
وفي هذا الإطار تعد إعادة هيكلة المؤسسات المالية، خاصة مصرف سوريا المركزي، أحد أبرز تلك الإصلاحات لتعزيز الشفافية والاستقلالية، كما ينبغي تبني سياسات نقدية متوازنة بعيدًا عن التوسع غير المسؤول في طباعة النقود، إلى جانب كبح التضخم عبر دعم القطاعات الإنتاجية وعودة حركة الإنتاج.
من جانب آخر، يفترض أن تكون استعادة الموارد الوطنية، وعلى رأسها حقول النفط والغاز، في سلم أولويات الحكومة الحالية، إضافة إلى إطلاق مشروعات إعادة الإعمار التي ستسهم في دوران عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل، وتشجيع القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، عبر إيجاد بيئة أعمال محفزة وخالية من الفساد، والتعاون الوثيق مع المجتمع الدولي لضمان تدفق المساعدات المالية والتحويلات المالية من الخارج، فمن شأن ذلك كله أن يشكل عاملًا أساسيًا في تعزيز قيمة الليرة ودعم الاحتياطي النقدي وبناء اقتصاد مستدام.