سوريا بعد إسقاط الأبد
لمى قنوت
نضال طويل ما زال ينتظر السوريين والسوريات من أجل بناء دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات، دولة ذات نظام ديمقراطي، تعددية، حيادية تجاه جميع مواطنيها ومواطناتها وأيديولوجياتهم، دولة تضمن وتصون العدالة والمساواة والحريات الفردية والجماعية. وما إنهاء الحقبة الدموية لنظام الأسد، وإسقاطه بجميع رموزه، إلا مرحلة من مراحل تغيير بنية الدولة الاستبدادية الفاسدة. وحتى وصولنا إلى الدولة المنشودة، فإن المرحلة الحالية المؤقتة حساسة ومهمة كواحدة من المراحل التأسيسية التي يجب أن تخضع لعدسة الفحص والنقد، كي لا نسهم في صناعة طاغية آخر ونعيد إنتاج منظومة الاستبداد بلبوس جديد.
مع تولي أحمد الشرع وحكومة تصريف الأعمال إدارة البلاد حتى بداية شهر آذار المقبل، برزت إخفاقات وقرارات اتخذت بشكل غير مدروس وبطريقة تخلو من التشاركية، يجب علينا نقدها من أجل تلافيها وتطوير عملها أو تقويمه.
بداية، جميع التعيينات التي قام بها أحمد الشرع قائمة على الولاء الشخصي له، وذات خلفية سياسية وأيديولوجية واحدة، وتدل على رغبة في الاستئثار بالسلطة، ولم يجتمع الشرع حتى الآن مع القوى السياسية المعارضة للنظام المخلوع، أحزابًا وتجمعات وأفرادًا، في مرحلة يجب فيها التحضير الجيد لمؤتمر حوار وطني جامع والتوافق على آلية لانتخاب هيئة تأسيسية تمثل جميع أطياف الشعب وقواه السياسية لوضع دستور دائم للبلاد.
دستوريًا، ومع غياب أي تصريح رسمي حول المرجعية القانونية التي تستند إليها حكومة الأمر الواقع القائمة في إدارة البلاد، فثمة وجهتا نظر حول الوضع القانوني في سوريا حاليًا، عبر عن إحداها المحامي عارف الشعال، مشيرًا إلى اتفاق علماء القانون الدستوري على “أن الثورة تُسقِط الدستور، ولكن القوانين تبقى حتى تُلغى أو تُعدل بقوانين جديدة. وبسقوط الدستور تسقط السلطة التشـريعية التي أحدثها الدستور، وتسقط كذلك السلطة السياسية التي تتولى إدارة البلاد أو ما يعرف بـ(السلطة التنفيذية)”. وأضاف أنه “يمكن للإدارة الجديدة، بمشورة المختصين بالقانون الدستوري، أن تصدر إعلانًا دستوريًا أو دستورًا مؤقتًا يضمن الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، وينظم السلطة التنفيذية المؤقتة ويحدد من يملك سلطة التشريع في هذه الفترة، على أن تخضع جميع التشريعات التي تصدر لتصديق المجلس التشريعي الدائم مستقبلًا، ويفضل ترك السلطة القضائية على حالها وتنظيمها فيما بعد على أن تضمن استقلالها التام”. أما وجهة النظر الأخرى فتشير إلى أن السلطة الحالية تعمل جزئيًا بموجب دستور عام 2012، وعليها أن توضح ما الأبواب والفصول والنصوص التي تستند إليها في الدستور، والجهات التي تمارس الصلاحيات.
اقتصاديًا، تحدث وزير الاقتصاد بأن “الإجراءات الاقتصادية تشمل التحوّل من منظومة اشتراكية شمولية فاسدة إلى نظام اقتصاد حر تنافسي ومفتوح”، في حين أن الهوية الليبرالية للاقتصاد توسعت في منتصف الثمانينيات خلال حكم حافظ الأسد كجزء من التكيف والاندماج مع السوق العالمية والتحولات الاقتصادية التي شهدها العالم، على الرغم من التنصيص الدستوري في دستور عام 1973 على أن اقتصاد الدولة هو “اقتصاد اشتراكي مخطط”. أما الرئيس المخلوع بشار الأسد فجذر السياسات النيوليبرالية وتوسع في عملية الخصخصة وتحرير الأسواق، وخفض الدعم على عدد من السلع والخدمات، وانسحب دور الدولة من الرعاية الاجتماعية في العديد من القطاعات، ومهد ما يعرف باسم “اقتصاد السوق الاجتماعي” في الفترة 2005-2010 إلى ظهور طبقة من أبناء قيادات النظام بنت ثروات بطرق غير قانونية، وبيضت أموالها في مشاريع خدمية ومالية وترفيهية، وتحكمت بقطاع التجارة، بمشاركة مع تجار جدد، انضموا إلى شبكة الزبائنية التي قادها النظام خلال حربه ضد الشعب.
أما قرار إلغاء الرسوم الجمركية، وإن كان سيؤدي إلى خفض أسعار السلع وتوفرها للمستهلك وتعزيز المنافسة، لكنه وفي المقابل، سيقضي على ما تبقى من الصناعات المحلية التي تَضَرَر الكثير من منشآتها وتراجع إنتاجها بفعل تداعيات الصراع وتدني القدرة الشرائية للناس والعقوبات الاقتصادية وفرض الإتاوات التي كان يفرضها المكتب السري التابع للقصر الجمهوري على التجار والصناعيين، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء وتدني الخدمات، وغالبًا ما أدى كل ذلك إلى إغلاق العديد من المنشآت أو انتقالها إلى دول أخرى أو تشغيلها بالحد الأدنى، وبالتالي فإن الاقتصاد السوري وقوانينه يجب أن تُقرّ بناء على مصالح السواد الأعظم من السوريين والسوريات لا على مصالح الأثرياء الذين يشكلون نسبة ضئيلة جدًا من المجتمع أو اعتمادًا على وصفات دولية جاهزة.
وعلى صعيد الحق في معرفة الحقيقة وحماية الأدلة والمواقع الحساسة لضمان العدالة والمحاسبة، فقد أخفقت حكومة تصريف الأعمال في حماية السجلات والوثائق في المراكز الأمنية ومراكز الاحتجاز الرسمية والسرية، مما جعلها عرضة للعبث والحرق والسرقة والتلف، وتُركت مبعثرة على الأرض، بدل حمايتها وجمعها كأدلة للكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين قسرًا، نساء ورجالًا وأطفالًا، لاستخدامها في مسارات العدالة الانتقالية، وفشلت الحكومة أيضًا في حماية المقابر الجماعية التي اكتشفت بعد إسقاط النظام وتعرضت بعض محتوياتها للنبش العشوائي والعبث بالرفات البشري، وأدت الفوضى في تحرير المعتقلين والمعتقلات إلى إطلاق سراح سجناء مدانين بتهم جنائية.
ختامًا، في ظل المطامع الاستعمارية الإسرائيلية في أرضنا، والتربص الإقليمي والدولي في سوريا، وخطاب غربي تمييزي مستفز يصنفنا كأكثريات وأقليات طائفية، ملغيًا مواطنيتنا، وحذر عربي من امتداد عدوى الثورات وإسقاط الطغاة إلى دول أخرى، نحن أمام استكمال ما بدأناه في عام 2011، ولا سبيل لانتزاع تحررنا الجذري وتحرير أرضنا إلا بالنضال السياسي المنظم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :