خطيب بدلة
يمكننا قراءة التاريخ بالصراخ، والخطابات، والعنتريات التي ما قتلت ذبابة، فنحقق، بالنتيجة، جهلًا، وتخلفًا، وغطسًا أكثر في الجورة التاريخية التي نقبع فيها منذ دهور.. ويمكننا، كذلك، أن نقرأه ضمن منهجية علمية، أقرب ما تكون إلى العقل والمنطق، وهذا يفيدنا، بالطبع.
خذ مثلًا من تاريخنا المعاصر، انتصرت بريطانيا وفرنسا، في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، وكان من الطبيعي أن تتقاسما البلاد التي خرجت منها الدولة العثمانية منهزمة، بلادنا. رسمت بريطانيا وفرنسا الخرائط، ضمن اتفاقية “سايكس بيكو”، وباشرتا بتنفيذها سنة 1920، وكانت بريطانيا قد أعطت، في سنة 1916، لحلفائها اليهود وعدًا بتأسيس دولة إسرائيل، “وعد بلفور”، نفذوه في سنة 1948، بإشراف بريطانيا نفسها، ووعدًا آخر، للشريف حسين بن علي، والي الحجاز، بإقامة مملكة عربية، على الأرض السورية، وبالفعل، جاء فيصل بن الحسين إلى دمشق، في تشرين الأول 1918، وبدأ العمل على تأسيس مملكته، ولكن فرنسا أخرجته منها، في تموز 1920، وحلت مكانه.
الهدف من التذكير بتلك الأحداث، القول بأن المنتصرين هم الذين يوزعون “الجلاءات”، ويحددون مسار الدول الصغيرة، الضعيفة، كدولنا، واليوم، بعد أن خاضت أمريكا وإسرائيل حربًا طويلة، شرسة، على الوجود الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، خرجتا منتصرتين، ولهذا نراهما تمليان شروطهما على المنطقة كلها، وليس غريبًا أن نرى الحدود القديمة لهذه البلاد تنزاح، أو يعاد رسمها، وفقًا لإرادة تينك الدولتين.
أعطانا رئيس أمريكا، جو بايدن، خلاصة ما جرى لنظام بشار الأسد، بجملة واحدة، شديدة التركيز، هي أن سبب سقوطه كان إصراره على السير في ركب روسيا وإيران، مع رسالة ثانية تتعلق بدعم الكرد، وبالأخص في مجال مكافحة الإرهاب.
في اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ضوءًا أخضر للجيش الإسرائيلي، باحتلال جبل الشيخ، وإقامة منطقة عازلة في الجولان، متذرعًا بأن اتفاق فصل القوات الذي وقع سنة 1974، ينص على ذلك، تبعه تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي، هيرتسي هاليفي، بأن سوريا قد أصبحت بالنسبة لإسرائيل، جبهة قتال، وفي ذلك اليوم المشهود، 9 من كانون الأول 2024، انقض الطيران الإسرائيلي على القطعات البحرية السورية، والدفاعات الجوية، والأماكن التي ربما كانت تحتوي على أسلحة كيماوية، أو جرثومية، فتحقق لإسرائيل أكبر نصر على سوريا، في تاريخها كله، ومنيت سوريا بأكبر هزيمة في تاريخها.
كان صوت العقل السوري، خلال السنوات الأخيرة، يواجه بالتخوين، والتكفير، والصراخ، والشعارات. كانت الجوقة، التي تسرح وتمرح في فضاءات “السوشيال ميديا”، تقيم الكون وتقعده على رأس أي إنسان واقعي، مطالبين إياه بـ”التطنيش” على ما يراه، والانضمام إلى الهتيفة، والصييحة، والسحيجة، وبقينا نعيش على هذا المنوال حتى وقع الرأس في الرأس، ومنينا بكمية لا يستهان بها من الهزائم الجديدة.
الشعب السوري، اليوم، أعزل، ومرهق، وممزق، وقلق، والمنتصرون يوزعون “الجلاءات” علينا. إذا سألتني ماذا نفعل؟ هل نستسلم؟ أقول لك رأيي، وبكل محبة وتواضع: تعالوا نعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا، وهذا أقصى ما في يدنا أن نفعله.