لقاح ضد الاستبداد
غزوان قرنفل
أزعم أن السوريين خلال العقد الأخير، بكل ما حفل به من قهر وتشرد واستباحة، وبعد أن منّ الله عليهم في ذروة المشهد الصعب بهزيمة أعتى نظم الإجرام والاستبداد وإسقاطه، قد اكتسبوا مناعة قوية ضد الاستبداد، حتى صار جسد المجتمع السوري قادرًا على فرز إنزيمات الحرية التي لم يعد ممكنًا لأي سلطة جديدة أن تستبيحها أو تجهض مسارها.
دون شك، لا يمكن القول إن الديمقراطية والحريات العامة تكرست حقًا، لكنها صارت أقرب منالًا، وصارت الفرصة للتأسيس لعملية تحول ديمقراطي ممكنة، إن أُخلصت النيات لدى جميع أطياف الشعب السوري.
السوريون واجهوا خلال العقد الماضي حالة ولادة عسيرة أنهكتهم وأنهكت بلادهم، حتى تمكنوا من العبور اليوم للمرة الأولى منذ أكثر من نصف قرن إلى ضفة الحرية التي تتطلب عملية ترسيخها، كقيمة عليا في المجتمع والفضاء العام والسياسة والعمل المدني، جهودًا كبيرة جدًا حتى يستخلصوا لقاحهم المديد ضد أي شكل من أشكال الاستبداد وأي سلوك يمكن أن يؤشر لعودة الدولة البوليسية.
أول مكونات هذا اللقاح هو أن ندرك جميعًا أن الحقيقة ليست دائمًا على الجانب الذي نقف فيه بالضرورة، فلا أحد يملك الحق بمفرده في إعادة تشكيل الدولة والسلطة كيفما يرى ويعتقد، حتى لو كان يمثل أغلبية عددية، بل ثمة دائمًا قواسم مشتركة وقيم عليا متوافق عليها بين السوريين، وهناك أيضًا توافقات وطنية ممكنة بينهم يمكن لها وحدها أن تصلح لتكون أرضية لبناء وطن نشترك به جميعًا في حقوق المواطنة.
والمواطنة تقتضي أن يكون لي تمامًا مثل ما هو لك من حقوق، وعليّ مثل الذي عليك من واجبات والتزامات، وعليه فالدستور هنا يتعين عليه أن يتيح لي من الحقوق ما يتيح لك وله ولها، ولا يجوز بحال أن تتفرد أنت بحق أو حقوق لا أملك أنا أو هو أو هي حق ممارستها، عندها سوف يختل الميزان وتتكرس من جديد دولة الرعية لا دولة المواطنين.
سيادة القانون أيضًا من أهم مكونات هذا اللقاح العجيب، وهي ليست فقط امتثال الأفراد كافة لأحكامه، بل أيضًا اعتبار كل أعمال السلطات العامة وتدابيرها وإجراءاتها وقراراتها غير صحيحة ولا تتسم بالمشروعية، ولا منتجة لآثارها القانونية، ما لم تكن مطابقة لقواعد القانون ومنسجمة مع أحكامه، وهي قبل كل ذلك وبعده مبدأ راسخ للحكم الرشيد، حيث يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات، بما في ذلك السلطة التي تتولى إدارة الشؤون العامة، مسؤولين أمام قوانين صادرة علنًا ومتسمة بالمشروعية الدستورية، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، فما من دولة تغولت فيها أجهزة الحكم وأدواته إلا وكانت دولة شمولية دكتاتورية لا تقبل الرأي الآخر في أي شأن من شؤونها مهما كان صغيرًا أو تافهًا.
استقلال القضاء لعله أهم ركن من أركان الديمقراطية، فليس علينا أن نتوهم وجود قضاء مستقل في ظل دولة بوليسية استبدادية لا تقيم وزنًا لمبدأ سيادة القانون، لأنهما على طرفي نقيض، وكلما خطونا خطوة نحو هذا الأمر، فككنا لبنة من بنيان الاستبداد بالضرورة.
الشفافية أيضًا جزء من الوصفة والتركيبة، وهي لا تتحقق إلا بتوفير سبل الوصول إلى المعلومات والاطلاع عليها، ودعم حرية الصحافة التي تتيح طرح ومناقشة مختلف القضايا والسياسات ضمن الفضاء العام، فغياب آليات المراقبة والمحاسبة وانعدام الحريات الإعلامية، يوفر البيئة المناسبة لتعشيش الفساد ونموه واستشرائه، فالفساد صنو الاستبداد، وما إن يتوفر الثاني حتى يبدأ الأول بالنمو والتغول.
وأخيرًا لا بد من الإشارة والتوكيد على حاجة سوريا إلى برنامج وطني شامل للعدالة الانتقالية، التي هي ليست فقط مطلبًا ملحًّا لضحايا الجرائم والانتهاكات والفظاعات المرتكبة في سوريا وذويهم فحسب، بل حاجة مجتمعية سورية لنقل المجتمع السوري من ضفة الاحتراب والصراع إلى ضفة السلامة الوطنية، فحجم وهول الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق السوريين خلّف تصدعًا مجتمعيًا كبيرًا، خاصة بعد أن تم إلباس الصراع لبوسًا طائفيًا ودينيًا، وهذا يزيد من حاجة السوريين أكثر إلى برنامج وطني للعدالة الانتقالية، يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات التي ضلعت في ارتكاب الجرائم والانتهاكات، أو سكتت عنها، لتتمكن من إدارة الحريات بدلًا من قمعها، وحماية الحقوق بدلًا من استلابها، كما يأخذ على عاتقه أيضًا، وقبل تعويض الضحايا، محاسبة كبار المسؤولين عن ارتكاب الفظاعات والانتهاكات والقتل المنهجي للسوريين، فترميم المجتمع لا يكون برضوخ الضحايا لجلاديهم، وكأن شيئًا لم يكن أو لم يحصل، ولا يكون بكنس القمامة ووضعها تحت السجاد، بل بتنظيف البيت السوري ووضع القمامة حيث يجب أن توضع.
مسألة المحاسبة والمساءلة تعتبر ذات أولوية كبرى ضمن أولويات واحتياجات المجتمع السوري حتى يستطيع أن يعالج جراحه، ويرمم آدميته، ويطوي تلك المرحلة من حياته، ليؤسس لمرحلة مغايرة، أساسها القطع مع الماضي الاستبدادي، وترسيخ قيم حقوق الإنسان حتى يكون قد استوفى شروط صناعة هذا اللقاح الذي يحصّن مناعته ضد كل أشكال الاستبداد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :